+A
A-

“الحق يعلو” تأملات في لوحة لعبدالإله العرب

مثل الخط العربي مجالا خصبا للإبداع، خصوصا مع معرفتنا بالموقف الذي ساد في الثقافة العربية حيث يشير إلى تحريم رسم الشخوص والحيوانات أو نحت ما يمكن أن يدل عليها، فاتجه الفنان في العالم العربي مع بدء انطلاق دولته منذ عصر الرسول فيما بعد إلى الخط العربي يجوده وينفخ فيه من روح الابداع، وللمتتبع أن يذهب نحو تجليات الحالة الابداعية في الخط الذي كان بالتأكيد يتطور نتيجة حاجات المجتمع الذي بدأ في بناء الدولة ثم ارتقى من الدولة العربية الاسلامية إلى ما بات يعرف بالامبرطورية العربية الاسلامية.

نغمات على وتر الكوفي
لم تكن نشأة الخط العربي واضحة المعالم، بل اختلف على اصوله الكثير من الباحثين عبر التاريخ، ويبدو أن للخط العربي اسلافا متعددة من المسند إلى الارامي التي انبثق منها الخط الكوفي بأنواعه، وهذا الخط العريق يحمل صبغة تاريخية حيث ينسب إلى دول وبلدان وممالك وحقب تاريخية مهمة في الأمة مثل (الكوفي المملوكى) و(الكوفي الأيوبى) و(الكوفي الفاطمي) و(الكوفي الأندلسي) كم ينسب إلى إقليم مثل (الكوفي النيسبوري) و(الكوفي القيرواني) وغيرها من الكوفي المتعرف عليه مثل (الكوفي المورق) و(الكوفي الشطرنجي) و(الكوفي المظفور)، ويمكننا عد ثمانية عشر شكلا له ويبدو أن هذا الخط لم يستوف باعتباره قابلا للتطور في فنون الكتابة العربية، ومن ثم جاء بعده خط النسخ وتلاه خط الثلث إلى الخط الديواني ومنه إلى الديواني الجلي الذي هيمن على هذه اللوحة التي حملت عبارة مكتوبة (الحق يعلو).
والخط العربي يعتمد فنيًا وجماليًا على قواعد خاصة تنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة، وتُستخدم في أدائه فنيًا العناصر نفسها التي نراها في الفنون التشكيلية الأخرى، كالخط والكتلة والمساحة اللونية، ليس بمعناها المتحرك ماديًا فحسب بل بمعناها الجمالي الذي ينتج حركة ذاتية تجعل الخط يتهادى في رونق جماليٍ مستقلٍ عن مضامينه ومرتبط معها في آن واحد.

الخط حين ينهمر
نجد في هذه اللوحة تلك العبارة التي تعطي منظورا جماليا يذهب في اتجاه حركة العين التي تتخيل العبارة وهي تطفر من أعلى اللوحة بانفتاح نهايات حروفها في ألف ولامين تاليتين كأنهما تذهبان إلى خارج اللوحة، متخذة البياض الصريح ما يملأ جوف الحروف في ثخانتها التي تقترح ان القصب لم يدخل في تشكيلها إلا ربما في البروفات الاولى، ولكن امتدادها يحتم استخدام تقنيات مختلفة في تنفيذ هذه اللوحة، خصوصا إذا عرفنا أن حجمها يوازي طول الانسان العادي، وتبد لنا تلك الحواف في بحر من لون احمر صريح كأنها مشرشرة نوعا ما أو متماوجة.
وتترابط عبارة الحق يعلو مع تلك الحركة التي تبين للرائي انها تنهض من جديد من خلال بروزن يقترح على الرائي انها اختراق امتداد الحروف لباطن اللوحة بشكل يوحي بالشدة والقسوة متجهة إلى الاعلى، كما توحي للناظر كونها تعبيرا منعكسا للفظ الجلالة (الله) ولكن بتكرار لامها المدغمة، ذلك الخط المشرشر الذي يتبين في اللوحة ربما أوحى لنا بحافة النصال المتكسرة من الصراع الذي يبدو أن الحق يخوضه في اتجاه النهوض نحو تموضعه في وسط الصورة، وهي خاصية ممكنة في الخط الديواني والجلي منه على وجه الخصوص حيث كان يمتلئ بالزخارف المناسبة للأعمال الفنية، ولكنه في خط تطوره تحول من خط تتداخل فيه الحروف بحيث تزيد في بعض الاحيان من صعوبة القراءة الناتجة عن استدارة حروفه وتداخلها إلى ليونة الخط وانسيابه وتخلصه من الزوائد والتداخل وربما بسبب ذلك سمي بالجلي.

ظلال لما لا ظل له
لا تتركنا اللوحة نرتاح إلى القراءة فقط، إنما تذهب بنا إلى ما هو ابعد من ذلك، فالحروف المفتوحة الآخر على البياض الخارج من اللوحة الذي يوحي بأن الحق لا يمكن حصره في مكان ما أو زمان ما وإنما يمتد لتطفو خارج اللوحة التي تعيد امتصاصه بعناصرها التشكيلية، فتتضافر هذه الحركة البصرية مع البياض الذي يوحي بالسلام والطهارة، ولعل احاطته بالأحمر الناري تماما يوحي بالقوة ايضا، إن حركة النص البصرية تتناقض تماما مع حركة بقايا الاحرف الممتدة في الركن الايسر من الصورة والتي توحي ببقايا امتدادات الحروف وكأنها حراب مشرعة في جهة مناقضة للنص كأنها تقلبه.
هل نحن أمام معركة ما على وشك أن تبدأ بين الكلمات وبقاياها، ترى هل هي امتدادات الالف واللام وللام الثانية في كلمة يعلو، وبالتالي نحن في مأزق فهم حروف ممتدة إلى الاعلى ثلاثة فقط بينما هناك اربعة تكمن في الخطوط السفلية، أم ترى عمد عبد الاله العرب إلى استدارة الواو في كلمة يعلو ليوحي لنا بهذا الامتداد، ولكنها تمتد ولا تخرج منفتحة على نهاية الاطار كما بقية الحروف الممتدة كما القاف في استدارتها، بينما لا تتناسب المسافات المتروكة بين الامتدادات السفلية والحروف العلوية المتشكلة في جملة الحق يعلو.
أم ترى انها مسألة توازن بصري، بين العبارة وامتدادات ما اسفل الصورة، تلك الامتدادات الغامضة التي لا يستبان إلا شرشرتها ومشاركتها الخط في خصائصه، وربما لذلك امتدت الالف تشق طريقها لكسر هيمنة اللون الاحمر على مجمل المساحة البصرية متجهة نحو الاسفل لتخرج عن التوازن المألوف في الخط العربي لتبرز جماليات مغايرة له يمكن إدراكها بصريا لتقود العين صعودا نحو العبارة.
إن هناك توازنا بصريا بين عبارة الحق يعلو وبين الزوائد التشكيلية التي ربما ايضا تعبر عن تخلص خط الديواني الجلي من زوائده التي كانت مشتبكة معه، ترى هل نحن امام مجرد معركة الخط ذاته في سبيل تحرره، ماذا يمكن أن تضيف العبارة هنا إلى جماليات الخط في ذاته، إنها دعوة للتأمل.