العدد 2109
الخميس 24 يوليو 2014
banner
أوهام العودة وأحلام التقدم غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 24 يوليو 2014

في حواره المطول مع الزميلة “الوسط”، قال المحامي، والنائب البرلماني السابق فريد غازي، ختم اللقاء بقوله “أمنيتي وأمنية كل بحريني مخلص، نريد أن نرى المصالحة الوطنية على الأرض تتحقق؛ لكي نعود كما كنا قبل (14 فبراير/شباط 2011)”، وهي أمنية تبدو أكثر معقولية – إلى حد ما – من تلك التي أسرَّ بها إليَّ ناشط سياسي في صيف العام نفسه (2011)، إذ قال إنه تمنى أن يكون الله قد “أخذ أمانته”، يعني أنه تمنى لو مات في السبعينات الماضية، حيث كان الناس لا يعرفون مذاهب بعضهم إلا عرضاً، وكان الهمّ الوطني غالباً، ولم يعش حتى يرى ما يرى!
نعم، لقد أخذت أحداث ذلك العام الكثير منا على كل الأصعدة، رآها البعض أحداثاً مأسوية زعزعت الاستقرار الاجتماعي، وضربت التعايش والوحدة الوطنية، وليس جديداً القول بأن التباعد، بل التقابل في المواقف جعل كلٌّ يرمي التهم على الآخر في ما وصلت إليه الحالة البحرينية، وكلٌّ يقول: “لولا أنتم لكنا أكثر تلاحماً وقوة ومحبة”، حتى صار من الصعب اختراق هذه الإيمانيات التي ترسّخت عبر الكثير من القنوات، والتي اجتهد كل طرف، لأن يجعل من موقفه الموقف الأصح على الإطلاق، وغير القابل للنقاش والتشكيك، وهو ما جعل المسألة تمتد عبر السنوات الثلاث إلى يومنا هذا، وإن تراجعت بعض التعنتات والعنتريات عمّا كانت عليه في تلك الأثناء، إلا أن شيئاً مهماً لم يحدث على الأرض بعد.
وآخرون، يرون أنه من المفيد أن يحدث ما حدث على الرغم من كل التبعات التي تأتت منه، ذلك أن ما حدث عجّل في هدم الأعمدة الاجتماعية والسياسية المتصدّعة التي كانت تستحي تتهاوى من تلقائها، وكانت تحتاج هذا الحراك الذي “نفخ” على هذه الأعمدة، وما كانت تحتاج أكثر من نفخة لتقع، وخمّش الحراك الطبقات التي كانت تغطي وجوه الكثير من المسائل العالقة التي يجري التوافق على عدم كشفها مباشرة وعلناً حفاظاً على الوضع القائم.
صحيح أن الكثير من الأوضاع، وعلى كثير من الأصعدة اليوم هي أسوأ من 14 فبراير 2011 وما تلاه، والأجواء لا تزال متزترة، والكلمات البذيئة لا تزال تملأ الأسماع وتسمم الهواء، والمواقف المخزية لم تزل تستدعي الدهشة، بل والصدمة، ولكن من قال إن الوضع آنذاك كان مثالياً حتى نحلم بالعودة إليه، والعيش في ظلاله؟
فلو عدنا إلى عقود سبقت، لرأينا أن الأوضاع هي تقريباً لم تتغير كثيراً، لم تكن هناك حالة من الرضا، ولكنها كانت حالة كمون أحياناً، وتفجّر أحياناً أخرى، والمتغيران الأساسيان هما: الانفتاح السياسي الذي فتح معه الكثير من الجروح التي لم تُخَط بشكل جيد، أو أنها لم تعالج من الأساس، حتى غدت ندوباً على جسد الوطن، وأفضل ما كان علينا فعله، أو بالأحرى ما كنا نفعله حقيقة طوال تلك الفترة، هو الإشاحة عنها، ولكن الإشاحة وعدم التظاهر برؤيتها لا يعني أبداً أنها غير موجودة، أو أنه تم علاجها جذرياً. أما المتغير الثاني، وهو التطور التكنولوجي الذي أتاح للكبير والصغير، والمفكر ومن لا فكر له، والقاصي والداني، وذي الطول السياسي ومن لم يصل إلى الحبو بعد في هذا المضمار، قادر على أن يبث ما يريد، وينشر ما يشاء، مع خلو الكثير مما يُنشر من المسؤولية، أو بُعد النظر إلى ما يمكن أن تفعله وسائل التواصل الاجتماعي من سوء في فترات محددة من هكذا تصرفات، وغالبها كان تحت شعار “الوطن” الذي تشوّشت هويته ومعانيه في ظل هذا الركام الذي حدث. فلا عجب أن يتحاجز الناس في هذا الهجوم المتبادل من دون أن يعوا أنهم إنما يدوسون على كل المعاني الوطنية في سبيل دفاعهم عن الوطن. ولا غرابة أيضاً أن ينأى أناس عن أيٍّ من الموقفين لا لأنهم يريدون أن يروا إلى أين تميل الكفة، ولمن ستنتهي موازين القوى، ولكن حتى لا يسهموا في الإجهاز على البقية الباقية من أحلامهم!
إن العودة إلى الماضي وهم، وأمنية من الصعب أن تتحقق، إن لم يكن تحققها مستحيلاً، فلا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولا هو الوراء اللامع الناصع الخالي من المعايب الكثيرة. فحتى العودة إليه لن تعدو “تمثيلية” تشبه الأعمال الدرامية التي تتناول العيش في الماضي، وتنتهي بانتهاء العمل، بينما الناس في وادٍ آخر، يحنّون ولكنهم أبداً لن يستطيعوا إنفاذ هذا الحنين، وتحويله إلى واقع معاش؛ لأن كل العوامل التي صنعت الماضي، أو الصور الأجمل التي ننتخبها منه، قد تغيرت وما عاد لها وجود، ولا يمكن استعادتها مجدداً.
سيكون من الأجدى أن نحلم بالتقدم إلى الأمام إن كانت هناك إرادة مشتركة بين الجميع حتى ننتهي من هذه الأسطوانات المزعجة التي لا تملّ الدوران من كل اتجاه. أن نقفل الأبواب والحجج والذرائع أمام كل الأطراف حتى لا تتحول الخلافات السياسية إلى أزمة اجتماعية، والاثنتان مبنيتان على خلفيات مذهبية، فينقسم الناس إلى مع وضد بحسب الطائفة قبل البحث عن الحق والباطل، وما يجب وما لا يجب أن يُتخذ من مواقف. وأن نزيل معاً جميع المسببات التي أدت إلى تورُّم الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية محلياً؛ حتى لا نضطر إلى إعادة سيناريو 2011، أو حتى ما قبله من سيناريوهات أرهقت الوطن وجعلته يئن، وإنْ بشكل آخر بعد سنوات قلائل، ربما بالوجوه نفسها، ولكن حتماً الأسباب والدوافع لن تتغير إن لم نبدأ في تغييرها...والآن.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .