العدد 2116
الخميس 31 يوليو 2014
banner
العيد فرحة... صحيح؟! غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 31 يوليو 2014

عندما انتصف نهار العيد، جلسنا في بيت أحد الأقارب، فقال أحدنا: “ولا كأنه عيد!”، فرد عليه آخر “ماذا تريد أن نفعل لتشعر بالعيد؟ “نطق” لك ليوة؟!”.
هذا الحديث لم يكن في عيد الفطر الذي مرّ، ولا أعياد العام الماضي، وإنما استعيد هذا الحوار من فترة السبعينات، كنا إذ ذاك صغاراً، ولكننا نردد كلام الكبار، وهذا الكلام لا يزال يتردد في كل عيد ويتزايد ويعمّ حتى صار “ستيريو تايب”، أو لازمة للجميع... يا له من انحباس عام عن الابتكار والتجديد حتى في العبارات، حتى صارت عبارة “العيد ملل”، أو التساؤل عمّا يمكن فعله في العيد من الأمور اللازمة ليلة العيد وما قبلها، وتكرار الأفكار البائسة سنوياً، أو موسمياً بما في العيد من رتابة، ومقابلة أناس مفروضين عليك، وتلقي كميات ضخمة من القبلات الفارغة من المعاني، المنزوعة من سلاح المحبة، ومبادلة إطلاق القبلات من ناحيتك لآخرين بالكاد تعرف أسماءهم، وبالكاد تتذكر صلة قرابتهم منك، والابتسامات البلاستيكية المرتسمة على الوجوه بمجانية، حتى يعود الواحد منا إلى البيت ظهراً ليدلّك عضلات خدّيه من أثر تصنّع الاتبسامة والسعادة لحلول العيد.
وإذا كان العيد عند العرب قد أتى من أي يوم فيه اجتماع للناس، فإن ابن الأعرابي يقول: سُمي العِيدُ عيداً لأَنه يعود كل سنة بِفَرَحٍ مُجَدَّد. بينما أصل الكلمة هو عودة الحزن أو الفرح.
بالنسبة للأطفال، فإن العيد هو حصيلة ما جمعوا من “عيادي”، ومقارنتها بالأعياد السابقة، والتخطيط لصرفها على ألعابهم ومتعهم القصيرة المدى، والتي يقعون من بعدها في دائرة “الملل” الذي يشكون منه عادة على الرغم من توفر كمٍّ كبير من الملهيات، سواء المنزلية أو الخارجية، قياساً بما كانت عليه الأجيال الماضية، ومع ذلك فشكواهم من ملل العيد لا تنقطع.
وبالنسبة للكبار، فإن مصاريف العيد والمجاملات واللف على البيوت، وتداول الأحاديث المعلبة نفسها هي ما يجعلهم يضجّون بهذه المناسبة.
وفي المقابل، استطاع الإعلام الأميركي (أساساً)، وكذلك أهلونا الذين قضوا بعضاً من حياتهم في الدول الغربية، أن يرسموا صوراً مغايرة للأعياد الدينية والوطنية هناك مقارنة بما هي عليه هنا. حيث تعم السعادة، وتسود أجواء من الفرح الغامر الذي ينعش الجو ويشحنه بالخفّة، في البيوت والأسواق، وتتزين المحال التجارية بالزينات المغرية، وتضيء مكونات الهواء بالحبور والسرور بين الناس، تراهم يخرجون من المحال التجارية محمّلين بالهدايا التي سيتبادلونها وهم في غاية السعادة، يتبادلون الابتسامات والتهاني والتحايا مع الآخرين، ويزينون بيوتهم من الداخل والخارج، يدخلون البهجة على نفوس أبنائهم ومن حولهم، فيعمّ طقس غالب من السعادة... هكذا العيد في نظر أناس ليسوا قليلين، يقارنون هذا بذاك، أعيادنا وأعيادهم، لماذا لا نفرح حقيقة؟ لماذا ندّعي الفرح؟ ننافق أنفسنا ومن حولنا بأننا مسرورون، وما نحن بمسرورين إطلاقاً، فما ان يتم تناول غداء العيد، حتى يلتفت الناس إلى بعضهم ويطلقون العبارة نفسها تقريباً: “بس؟َ! خلّص العيد؟!”. نعم “خلّص... من عوّاده”.
وفي الحقيقة الأعياد في الدول الغربية ليست سعيدة دائماً، وليست أعيادنا بليدة وثقيلة الظل ومتعبة، بل هم الناس، أي نحن الذين بإمكاننا صنع السعادة أو وأدها. ونحن من يمكننا اختلاق فرص البهجة أو إحالتها إلى حركات ميكانيكية لا شعور فيها، ونحن من يستطيع أن يتواصل مع الآخرين بشكل مختلف، أو يأتلف معهم، أو لا. فنحن محسودون من الغربيين بما نملكه من طاقة محبة، وعلاقات اجتماعية لها من الروابط والألفة ما ليس لدى الكثير من المناطق في العالم، يتطلع الكثير إلينا بأننا في هذه المنطقة من العالم، الواقعة في قلب العالم القديم، تسودنا سذاجة المحبة المفرطة، وإن لم نكن في الحقيقة كذلك، وإلا لما سادت بيننا الحروب وتوطنت وكأنها لم تخلق إلا لنا، ومع ذلك يقولون عنا الكثير مما يفتقدونه، ونفتقد الكثير مما نراه فيهم، وهكذا وكأن لا أحد يرضى بما فيه، وما لديه، ويريد استكمال نواقصه، وتسديد نقائصه من الآخرين.
في الماضي، كانت الأعياد، والتي عشنا بعضاً من أطرافها، تحفل بالساحات (التي انقرضت اليوم لصالح نواطح الإسمنت ومحلات شاي الكرك والمواد الاستهلاكية المتشابهة)، ففي كل منطقة هناك ساحة كبرى، تقام فيها العروض من الفنون الشعبية المختلفة، ويجد الناس البسطاء في هذه البساطة بهجتهم يتحلقون حول الفرق، ويشارك البعض معهم. تجد النسوة احتفالاً في البيوت برقصة “المراداة”، ويجد الأطفال متعتهم في البسيط من الأمور التي يشترونها، والتي بالكاد متوفرة في المحال الصغيرة، القليلة، الفقيرة الأرفف. ويجد الشبان بهجتهم بحضور فيلم في السينما والتسكع مستعرضين ثيابهم الجديدة، وتجد الأسرة شيئاً من التغيير الجميل بالذهاب إلى الحدائق القليلة في وسط البلاد، لا لشيء مهم، لا توجد فيها ألعاب جذابة، ولا تقنيات عالية، ولا شيء، سوى العبور إليها، ولهو الأطفال بالأراجيح... بساطة متناهية، لم يكن يمنعها طقس حار أو بارد، كان الرضا هو ما يحرّض على الفرح، والإضافة إلى القليل تبدو كبيرة وواضحة، وفارقة أيضاً في حياة الناس، صغاراً وكباراً.
الفرح لا يأتي وحده، لا يأتي فجأة، وإنما يأتي من تصوراتنا، وأخيلتنا، وما يمكن أن نتوقعه. الفرح تراكم معرفي ونفسي واجتماعي ينعقد في نفوسنا، نترقب ما يبعثه ويبثّه، أو المناسبة التي نطلق هذا التراكم فيها، إنها خبرة حياتية تجعل عودة المناسبة شيئا مبهجا، ولكننا تعارفنا منذ سنوات طويلة على ذمّ العيد بما فيه، كجزء من طقوس التذمر السائدة في مجتمعنا، وعدم الرضا، ومحاولة صدّ أي مظهر للفرح، نعاقب أنفسنا بالمزيد من البؤس والقنوط والاكفهرار البادي على الوجوه. فلن تكون للعيد فرحة إن لم نجعله كذلك.. وكل فرح ونحن أسعد.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .