العدد 2256
الخميس 18 ديسمبر 2014
banner
حلول أميركا وشروط الوعي المجتمعي غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 18 ديسمبر 2014

مع كثرة المواضيع المحلية التي تستحق الكتابة عنها ومتابعتها، ومع كثرة الأمور التي تخلق لأي متابع أن يتخذ منها ذرائع للتتبع، إلا أن المواضيع العالمية أيضاً تستحق الكثير من الوقوف معها، خصوصاً إن كانت لها صلات بالواقع المحلي.
وربما ما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام يعتبر جزءاً من هذا الذي أتحدث عنه من مواضيع، وخصوصاً خلفيات ما حدث للشاب الأميركي الإفريقي الأصول، وما نتج عن مقتله من انفجارات اجتماعية وأمنية وغيرها. إنها أمور تشبه إلى حد كبير ما حدث ويحدث لدينا في البحرين من قضايا تتكشف وبشكل عنيف فجأة. ولكن المتأني يعلم أن لا شيء يبدأ فجأة من دون مقدمات.
فمقتل الشاب الأميركي فجّر موجة من العنف والاحتجاجات ما كانت لتنطلق بهذه الكثافة، وما كانت لتستمر كل هذا الوقت، وما كانت ستأخذ كل هذه التداعيات لولا أنها كانت القطرة التي أفاضت الكأس، والقشة التي قصمت ظهر البعير، ولنقل عنها ما يمكن قوله من التعبيرات المعروفة، ولكنها في الأساس أتت لتتوج تراكماً من اليأس الاجتماعي الأميركي، والإحساس العام بأن الأفارقة الذين خاضوا نضالاً منذ ما قبل المنتصف القرن العشرين، وأكثر لنيل حقوقهم المدنية متساوين مع البيض من المواطنين، ومنذ تحرير العبيد، ومنذ خوضهم حروباً للتحرر من نير هذا الظلم، لم يصلوا أبداً إلى مرامي الطماح، ولم يقفوا أبداً بالتساوي وتكافؤ الفرص مع نظرائهم، وخصوصاً البيض منهم، ولا تزال الأحياء المدقعة الفقر تكتظ بهذا العرق، وعروق أخرى مهاجرة كالمتحدرين من أصول لاتينية، وإن لم تخل هذه الأحياء من بيض معدمين وذوي حظوظ بائسة، إلا أن الغالبية ليست منهم إنما ممن هم غير الأوروبيين.
أتى هذا الحادث ليس لأنه حادثاً فريداً وغريباً، بل ليعبر عن طفح الكيل بالناس من هذا الوضع الذي هم فيه، والوعود بالمساواة الذي لا يتحقق، والفرص التي لا تتساوى، ولم يكن الأمر ليحتاج أكثر من مقتل ولد أسود على يد رجل أبيض حتى تضج الشوارع بالاحتجاجات والمصادمات. هذا، مع إحساس عال من الأفارقة بالمظلومية، وتحسس كبير من أي قول أو فعل فيه رائحة التمييز، وهذا ما يجعل الكثيرين منهم يقولون: “هل هذا لأنني أسود؟”، حتى تشكلت عقدة لدى قطاع كبير من الأميركيين الأفارقة بأنهم مستهدفون، وعليهم التلفت حولهم، والإنصات عميقاً لكل كلمة تقال لعلها تنتقص منهم. وحتى مع انتخاب الرئيس الحالي باراك حسين أوباما، الأميركي من الأصول الإفريقية والانتماء الأبوي الإسلامي، فإن شيئاً لم يتغير كثيراً في المشهد العام الذي لا يمكن أن يتغير بمجرد حدث طارئ كوصول أول رئيس إفريقي إلى سدة البيت الأبيض، فهذا ما كان ليفعل فعلاً عميقاً لأن الواصلين إلى المناصب العليا، وحتى أولئك الذين هم دون مستوى الرئاسة، ما كانوا ليصلوا إليها لولا أنهم ينتمون عميقاً إلى مؤسسات توصلهم إلى المفاصل المهمة من الدولة، بدءاً، وأساساً من التعليم العالي الذي يحصلون عليه، عبر ارتيادهم أهم وأكبر الجامعات التي من ضمن مهماتها توفير وصنع قيادات للولايات المتحدة، فهم لم يأتوا أساساً من قاع المجتمع، ولم يقدهم دأبهم إلى ما صاروا إليه.
أما كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الآخرين ودروسهم، فيمكننا التوقف أمام جملة من النقاط من أهمها: إننا كمجتمع لا يمكننا أن نغمض أعيننا عن جملة من الأوضاع غير الصحيحة على مستويات عدة، ولا يمكننا القول إننا نعيش في مجتمع مثالي، ولا في جمهورية أفلاطون، فمثل هذه الأقوال لن يقدم شيئاً، ولن يحل مشكلة. فالاعتراف بالمشاكل هو أول سبل الحل؛ لأنه ينمّ عن وعي مجتمعي لا ينقصنا، ولكن من المهم أن يتجذر بمعرفة الحقوق والواجبات، وأهمية أن لا نتظاهر بأن وضعاً ما لا يهمنا فقط؛ لأنه لا يمسنا، أو لأننا مستفيدون منه، حتى وإن كان من غير إرادة منا أو سعي له. فما أن يرضى أحدنا بوضع يصب في مصلحته وينتقص من مصالح وحقوق آخرين، حتى يبدو شريكاً في الخطأ، ويكون الوضع أسوأ إن طالب المستفيد استمرار الوضع إلى ما لا نهاية على اعتبار أنه حق مكتسب لا يمكن التفريط فيه أو التنازل جزئياً عنه.
ولو نظرنا إلى الحقوق المدنية التي استطاع الأفارقة الحصول عليها في الولايات المتحدة، وإن لم تجر بها الرياح كما هو مطلوب، كما تقدم، إلا أن الأفارقة لم يكونوا ليحظوا بالحقوق والامتيازات وتقليص الفوارق، وردم الهوة التي كانت بالغة العمق، بالغة الاتساع، لولا أن شاركهم البيض في هذه المطالب من منطلق إحساسهم (البيض) بأن الوعي الإنساني لم يعد يقبل هذه التفرقة البشعة في الحقوق، ولا هذا الانفصال بين اثنين يعيشان على  الأرض نفسها، ويحملان أوراقاً ثبوتية متشابهة، ولكنهم ينقسمون إلى طابورين عرقيين “حزّة الحزّة”. فحتى الحرب العالمية الثانية، كانت القوات الأميركية لا تقبل أن يكون الأميركي الإفريقي مقاتلاً في الجيش، إما لأنه لم يخلق للقتال، وإما أنه سيخدش عقيدة الجيش، وإما أنه لا يستحق هذا الشرف الوطني العظيم، أو أن من غير المناسب أن يتعلم على حمل السلاح والتدرب عليه. والأمر نفسه في جنوب إفريقيا التي نالت في تسعينات القرن العشرين حريتها من عقدة العنصرية التي وصمت حكوماتها الاستعمارية لعقود، فلولا إيمان الرئيس الأبيض فريدريك ويليام دي كليرك، بأن الوقت قد حان لإسدال الستار على هذا الفصل العنصري المقيت، وبالطبع إيمان قطاع كبير من حفدة المستعمرين البيض بالشيء نفسه، لاستمر نظام الفصل العنصري إلى وقت ليس بالقصير، وربما إلى يومنا هذا.
سيظل الرهان على الوعي المتغلغل في أوساط الناس هو الحصان الرابح لأي تغيير ممكن أن يحدث على أيٍّ من المحاور الحياتية لدينا، سواء كان المحور اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً، وما شئتم، هذا الوعي وحده القادر على أن يخضع الفرد منا إلى الحق وصوته، بدلاً من الانجذاب إلى الهويَّات الضيقة غير الوطنية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية