العدد 2295
الإثنين 26 يناير 2015
banner
التهشيم العظيم للأمة العربية غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 26 يناير 2015

“ما الذي يريده الحوثي في اليمن بحق السماء؟”، عبارة كتبها في الفيس بوك أحد الأصدقاء، واليمن، الذي ما عرف السعادة منذ أمد طويل، تتهاوى مكوناته إقليماً إقليماً في ظل الفوضى العارمة التي تعتريه، وما عاد السؤال موجهاً للحوثي وحده، ولكنه السؤال المفتوح لكل ما يجري في الساحات والبلدان العربية.
من السهل علينا ملاحظة أن اليمنين اللذين تحولا إلى يمن واحد منذ 1990، ظلت تعتوره الكثير من المشاكل التي أدت في العام 1994 إلى حرب انفصالية بين الجنوب والشمال، ونجحت الضغوطات الإقليمية في ترجيح كفة الشمال ليعيد توحيد البلاد من جديد. فهذا الاتحاد الهش ما كانت يساويه في الهشاشة إلا وضعه في المرتبة الثامنة في العام الماضي (2014) في قائمة الدول الأكثر هشاشة على مستوى العالم، وواحدة من الدول التي تعاني من صعوبات جمة في تحقيق مستويات تنمية معقولة، ومع ذلك فالصراع على اليمن كان ولا يزال على أشده للسيطرة على مضيق باب المندب، ولتكون هذه المنطقة العصية على دخول الداخلين إليها إما واحة أمن واستراحة، وإما أن تكون حصاة في حذاء شبه الجزيرة العربية!
ومع انسلاخ إقليم حضرموت وإقليم عدن وانضمام إقليم سبأ إليهما، وترنح العاصمة اليمنية صنعاء، والفوضى غير الخلاقة التي يمر بها هذا البلد الذي تغزوه الكثير من الأمراض والفقر والبطالة والمجاعة وغيرها، يحق لأي متتبع التساؤل عن أصول رغبتنا، نحن العرب، في صغار القطع من الدول بدلاً من كبارها.
فلقد بدأ الأمر بالعراق حديثاً عندما قيل إن العراق لا يمكنه العيش معاً، والعراقيين لا يمكنهم الوثوق ببعضهم البعض مجدداً، فجرى التقسيم النظري للعراق منذ 2003 إلى ثلاثة أقاليم (شيعية وسنية وكردية)، وتم دفع الأمور دفعاً حتى يتحقق هذا الانفصال والتفتيت، فلم تبق آفة إلا وعلقت على العراق الواحد، ولم تبق حسنة إلا ونسبت إلى العراق الثلاثي الأطراف والأقاليم. وقبل أن تتم الخطة وتصبح أمرا واقعاً، دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى اللعبة طرفاً جديداً وصار يهدد العراق كله، فلم يبق على العراق إلا النهوض معاً ومجتمعاً من أجل الذود عن كرامته واستقلاله، وتوارت (مؤقتاً) الأحاديث حول الثلاثية العراقية، ولكن لا يهدأ بال المخططين إلا بجعل العراق أخماساً وأسداساً.
وانثنى الأمر على السودان، أكبر الدول العربية مساحة، وواحدة من أكثر الدول المشحونة بالمتناقضات العرقية والدينية والفرق المختلفة، والطوائف غير المتصالحة، والأحزاب العريقة في العمل السياسي السوداني ذي النكهة الخاصة التي لا توجد في أي مكان من هذا الوطن العربي، ولا تتكرر إلا فيه؛ فبدأت مناشير التآمر تحزّ في الجسد السوداني لتحيله إلى جسدين، وقبل الناس هذا الانقسام إن كان سيوقف حمام الدم الذي تطويه العقود، ولكن الجنوب التفّ يقاتل نفسه، الشمال في قلاقله المعروفة، وربما تتكالب القوى الدولية لتفصل دارفور أيضاً عن الجسم الشمالي، فيما الرئيس السوداني المشير عمر حسن البشير تحت ملاحقة المحكمة الدولية التي تتربص به.
ولم يختلف المسعى في ليبيا عن المساعي السالفة، فهي اليوم مرشحة أكثر من أي وقت مضى للتقسيم الثلاثي بين إقليم طرابلس غرباً، وإقليم بُرقة، الذي يشمل بنغازي والبيضاء ودرنة، وغيرها، وإقليم فزّان في الجنوب، وهو الأمر الذي كان حتى العام 1964، فقد انفقعت أسماء لساسة ليبيين ما كان لأحد أن يسمع بهم في السنوات الاثنتين والأربعين طيلة حكم القذافي الذي سطّح جميع الفعاليات الوطنية لصالح جماعته.
وإن حكينا عن الحلول في سوريا اليوم فلن يختلف إطار الحل الذي إن لم يزح نظام الأسد من السلطة، فإن الحلول السهلة أن يجري تقسيم سوريا طائفياً لتسكن كل طائفة منطقة معزولة عن الأخرى!
إن اللجوء إلى المثل المصري “شيل ده عن ده، يرتاح ده من ده”، ليس هو الحل للمشكلات التي تواجه الأمم، فليس كل الخلافات تنتهي بتقسيم الدول لترتاح المكونات من بعضها البعض، لأن من يعتد هذا النوع من الانقسامات سوف لن يتوقف عند حد معين. إذ إن داخل كل تكوين مذهبي أو عرقي، هناك أيضاً الكثير من الخلافات الداخلية العميقة، وربما الأكثر سخونة من تلك التي وقعت مع الخارج، وسيكون من الأرجح أن تستمر الانشقاقات مادام الناس قد عرفوا هذه الدرب الوحيدة للخلاص من مشاكلهم. فتساؤل الصديق “ما الذي يريده الحوثي في اليمن بحق السماء؟”، هو نفسه ما يريده الطامحون في كل مكان، وما يديره الطامعون من الخارج، جرثومة الجشع المسيطر على البشرية لولا القوانين التي تحاول أن تحدّه وتوقف تقدمه، هي الرغبة في التمدد وإقصاء الآخرين من مناطق الفعل أو إبداء الرأي الذي سيتحول فيه المخالف عما قريب إلى خائن لأنه يرى ويقول بخلاف ما يرى ويقول المهيمنون، وسيكون لابد من إخراسه إلى الأبد، لأنها الطريقة الوحيدة التي يعرفها غير المتحضرين للخلاص من الصداع الفكري، وبعد تسوية الأرض سياسياً قطع رؤوس الألدّاء، لابد من إعادة فرشها بالخوف والرعب، وتأثيثها بالسجون، مع الحرص على إعلاء المشانق إلى الحد الذي يراها فيه جميع الناس فيتحسسون رقابهم، ويحمدون للمتربع على إراداتهم أنه ترك رؤوسهم على أكتافهم لهذه اللحظة، فيتحولون بعد سنوات من الخوف منه إلى الخوف عليه، وينسون حالة السخط ويقتربون إلى الامتنان، ومن حالة القلقلة والغليان، إلى الخنوع العظيم، مشيرين بأيديهم إلى النماذج الأسوأ حظاً من الدول والمجتمعات التي تفتتت وتشتتت، وتمزقت إرباً، داعين خالقهم أن يحفظ لهم خانقهم، لأنه يحمي البلاد من الانهيار والتشرذم.
نعم، إنها الفوضى وعدم اليقين العظيم الذي يعمّ الأمة العربية التي كانت تدعو – ولو غناءً – بالوحدة الوطنية، فصارت تدكّ بعضها لتفكّ العُرى الوثقى بين أوصالها. الأمة التي كانت تشكو “سايكس – بيكو”، فأنتجت عشرات “السايكسيين” اليوم الذين يرون ما يفعلونه في أوطانهم بأيديهم، فيشترون الحاضر على حساب المسؤولية التاريخية التي لم يعد يحفل بها أحد.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .