العدد 2330
الإثنين 02 مارس 2015
banner
هل حدثوك عن لحم السباع قط؟ غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 02 مارس 2015

ما إن تلتفت حولك اليوم، أو أي يوم شئت، حتى تجد الكثير من الأخبار والمقالات والخطب والقصص، والأشكال اللامتناهية من أشكال التواصل بين البشر في هذه المنطقة من الكرة الأرضية، تتحدث عن استهداف للمنطقة، استهداف يأتي من الشرق، وبالتحديد ومن دون مواربة: إيران، وتهديد يأتي من الغرب، وبالتحديد ومن دون رفة جفن: الولايات المتحدة.
الشكوى هي نفسها تقريباً لم تتغير منذ كانت إيران شاهنشاهية، كما لم تتغير مذ كانت الولايات المتحدة نيكسونية، نسبة إلى الرئيس الفضائحي الراحل ريتشارد نيكسون، صاحب فضيحة “ووتر غيت”، نصوّر أنفسنا على أننا شياه والجميع حولنا ذئاب. حملان بريئة مطأطئة رؤوسها ترعى في السهول بطمأنينة لا تدري بالضباع التي تتربص بها وتتحلب شهوة للانقضاض عليها، وهي ترى هذه الحملان مغرية، بالغة السمنة، تهتز أكنافها ترهلاً إن مشت، لا أنياب لها ولا مخالب، فلا ألذّ ولا أسهل من غنيمة وفريسة كهذه!
إن هذا الكلام على ما فيه من الصحة والواقعية، فيه أيضاً كمٌّ من المبالغات والابتعاد عن مجريات الأمور.
إذ لا يوجد بلد في العالم سالم من الأذى، خالٍ من الأطماع، لا يرغب فيه جار قريب، ولا طامع بعيد، وذلك لاعتبارات مختلفة، تتعلق أحيانا بالتاريخ المشترك، وأحياناً بما في البلاد من ثروات أو فرص، أو نظراً لأنها تصلح أن تكون منصة لمتنافسين استراتيجيين، فهذه البكائيات الخليجية لابد أن تتوقف أو تتحول إلى طاقة إيجابية بدلاً من تثبيتها على أنها من الحقائق التي لا شك فيها، إذ ليست هي وحدها المنطقة التي يرغب فيها القاصي والداني، ولكن إن كانت هناك رغبة في هذه المنطقة فقط لأنها لا تحمي نفسها بالشكل المطلوب، ولأنها تنحو إلى الراحة والدعة ما يغري المتنمرين والجشعين لأن يروا في شعوب هذه الرقعة من الأرض أنها لا تستحق ما تضجع عليه من ثروات نفطية، بينما هي أولى بها، وهي النظرة الاستعلائية نفسها التي قادت المستعمرين البرتغاليين منذ نهايات القرن الخامس عشر على يد فاسكو دي غاما لنهب الخيرات العربية وقطع الطريق على تجارتها لتستفرد البرتغال بتجارة التوابل، وحتى يومنا هذا سواء من قبل الغرب أو العرب، فكل يرى في نفسه أنه أكثر إنتاجية، وبالتالي أكثر استحقاقاً للمكافأة من شعوب خاملة كسولة، بالكاد تتحرك زحفاً كما الحلزونات، تأتي بمن يفكر عنها، وتجلب من يخطط عنها، وتشغّل من يشتغل عنها، وتجنّس من يلعب الرياضة نيابة عنها، ويفوز باسمها... وما على هذه الدول إلا أن تقطف ثمار المخطط، وتحصد زرع العامل، وتربح من عرق المتاجر، وتفرح للفوز بالمناسبات الرياضية... إنها شعوب الأسطر الأخيرة في الرواية، وهذا هو الأهم لدى البعض حيث كل الباقي لا يعدو تفاصيلا من المتعب قراءتها، ومن مضيعة الوقت المرور بها، وليت الوقت المختصر يذهب إلى ما يتعامل مع الطبقات العليا من التفكير البشري لإنتاج المعارف، بل في التفاهات والملاهي، والارتجاج خوفاً من الطامعين والمتربصين بنا، والمتربعين على عروش الشر يريدون هلاكنا!
لقد تعاملت بعض الأنظمة الخليجية مع شعوبها بطريقة أبوية مبالغ فيها، حيث اعتادت أن تحمي هذه “الكتاكيت” الصغيرة البسيطة الساذجة المسماة في بعض الأماكن الأخرى بـ “الشعوب”، ,جنّبتها المشقة، وجلبت من أقطار الأرض كل غوّاص وبناء للعمل نيابة عنهم. كالأبناء الصغار الذين يلهون في الحياة غير عابئين ولا خائفين ولا مهمومين، بينما أبوهم يذود الردى عنهم. إنه الأب نفسه الذي لا يقبل أن يصدق أن أولاده كبروا، ويرفض أن يعترف أن لهم رأياً حتى وإن بانت شواربهم، وتقسمت أجسامهم، وانفتلت عضلاتهم. ويشعر بكثير من الألم الممزوج بالغضب إن هم صوّبوه أو قوّموا أداءه وانتقدوا رأيه، فهذا مما لا يجوز ولا يمكن القبول به بالنسبة له، فهو طوال هذه العقود كان صاحب اليد الطولى، والرأي السديد، فكيف يأتي من كان يقيهم برد الشتاء وحرّ الصيف، ليشيروا إليه وعليه، ويطمعوا أن يشاركوه في إدارة دفة السفينة؟!
إن هذه الحمائية العالية، والدلال المستمر منذ عقود، عمل على “إفساد” قطاع من أهل هذه المنطقة، هل نتابع أهم سلوكيات الطفل المدلل؟ انها – بزعم أطباء علم نفس الطفولة – تتمحور في أنه لا يتبع قواعد التهذيب ولا يستجيب لأي من التوجيهات، يحتج على كل شيء، ويصر على تنفيذ رأيه، لا يعرف التفريق بين احتياجاته ورغباته، يطلب من الآخرين أشياء كثيرة أو غير معقولة، لا يحترم حقوق الآخرين ويحاول فرض رأيه عليهم، قليل الصبر والتحمل عند التعرض للضغوط، يصاب بنوبات البكاء أو الغضب بصورة متكررة، وأخيراً: يشكو دائما الملل. والآن، كم من هذه الصفات تتميز بها شعوب المنطقة؟ ومن ذا الذي ينجو منها أو تقل لديه هذه الصفات السلبية؟ وإن ليس هنا القصد بالتعميم، ولكن لا شك أن هذه الرعاية الكاملة والشاملة، والخشية من أن يعرق أهل الخليج فضلاً عن أن يصابوا بصداع أو سحجة بسيطة؛ قد خلقت أجيالاً من المدللين بالغي النظافة والتأنق، خاوي الطموح، ناقصي الهمّة، أصبحوا هم فقط محيط انتباههم واهتمامهم، فقدوا أكثر صلاتهم بالخارج، لا يهم غالبيتهم ما يجري في الأراضي العربية البعيدة نوعاً ما، علاقتهم بتاريخ الأمة، القريب منه والبعيد شبه متقطعة. ما عادت لأكثرهم قضايا محورية غير الذاتية المتضخمة، ونفخ بالون الشعور بالوطنية من دون أن يكون هذا الانتفاخ محشواً بالإنجازات الحقيقية، وإنما هي جملة من الشعارات الممجدة لصورة ذهنية علاقتها بالواقع ضعيفة، وأقدامها لا تكاد تلامس الأرض.
إن الخروج من حالة العجز والشكوى والخَوَر التي نمرّ بها تحتاج إلى تحولات جذرية في منظومة العلاقة بين الأنظمة والشعوب، وتأسيس لعلاقة أكثر واقعية لا تقوم على الأعطيات، بل على تبادل المحاسبة في الحقوق والواجبات، بما يجعل جسد الوطن ممشوقاً، قوياً، صلباً بصلابة أبنائه وقدرتهم على مواجهة التحديات ما ظهر منها وما بطن، حينها فقط يتراجع الطامعون ويفكرون مرات ومرات قبل التآمر على بلد متماسك قوي،عظيم اليقظة والإنجازات.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية