العدد 2599
الخميس 26 نوفمبر 2015
banner
“إنسان” أيضاً غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الخميس 26 نوفمبر 2015

في الدورة الثانية من جائزة البحرين للوعي المجتمعي (إنسان) التي تنظمها هيئة تنظيم سوق العمل، تم توسيع المشاركات من محلية (كما كانت العام الماضي) إلى خليجية، خصوصاً أن البيئات المجتمعية الخليجية متقاربة، كما أشار إلى ذلك الرئيس التنفيذي للهيئة أسامة العبسي.
إن الالتفات إلى الجانب الإنساني للعمالة المهاجرة، خصوصاً العمالة غير الماهرة التي يُنظر إليها بالكثير من الازدراء والامتهان، من الأمور المهمة في واقع تجري فيه عملية أشبه ما تكون باستعباد غير مستنكر ولا مستنكف من قبل أطراف كثيرة من المجتمعات المستقبلة لهذه العمالة. وقبل أن نستسلم لسهولة النتائج حيث الظن أن المسألة تتعلق بالخليج، والطفرة، أو “الخرعة” النفطية التي بعثرت القيم، وأنست الناس إنسانيتهم، وقسّمت المجتمع إلى سادة وأحرار وأشباه أحرار وخدم وعبيد، فإن المجتمعات العربية تنضح بقصص تدمى لها القلوب في شأن التعامل، خصوصاً مع عاملات المنازل اللاتي يُعتبرن الحلقة الأضعف في التركيبات المجتمعية، والعمالة الوافدة باتت طرفاً حقيقياً في المعادلة المجتمعية المحلية خصوصاً في إقليمنا الخليجي، حيث توجد في الكويت من عاملات المنازل ومن في حكمهن حوالي 660 ألفاً (أي أكثر من البحرينيين تقريباً في بلادهم)، وأكثر من ضعفهن - أكثر من 1.5 مليون عاملة منزل - في المملكة العربية السعودية، وعلى هذا يمكننا القياس في الكثير من دول الخليج، وذهابا إلى الكثير من الدول العربية، وغير العربية التي تحدث فيها مواجهات غير متكافئة بين الطرفين (الضحية والجلاد) بينما القانون يتفرج في الكثير من الحالات، أو يكاد يربّت على كتف الفاعل طالباً ألا يعيدها ثانية، ويمسح على رأس الضحية أن لا يحزن، وكفى! ولكن هناك أيضاً الكثير من القصص والمشاكل من النوع ذاته، أو ربما المختلف بعض الشيء تحدث في دول غير عربية.
ومعظم ما تواجهه العمالة الرخيصة الوافدة من مشاكل تتمثل في الإجبار على العمل، وحجز أوراق السفر، وتأخير الراتب، أو تفتيته، أو تأخيره، أو عدم دفعه تماماً لشهور، وأحياناً لسنوات، والعمل ساعات طويلة في اليوم، وعدم الحصول على إجازات منتظمة وغيرها من مشاكل لا يمكننا اليوم الإشاحة عنها، أو تجميلها، أو مراوغتها، ولا تجدي نفعاً عمليات الترقيع التي تجرى على المستويات الرسمية من أن ما يحدث عبارة عن حالات فردية، وشاذة، ومنعزلة (يا الله، ما أشطرنا وأبرعنا في صناعة المترادفات اللفظية، من دون مترادفات فعلية). ذلك لأن كثرة التقارير المحلية في كل بلد، والآتية من الخارج تشير إلى وجود هذه المعضلة، وهي في الأساس مشكلتنا نحن لا مشكلة العاملين من المهاجرين.
 نعم، إن الكثير من العمالة الوافدة وفّرت البيئة الخصبة لكي تُظلَم، وتمتهن، ويُنتقص من حقها، وتهان، وتصل في حالات بالغة التطرف إلى القتل، وذلك بفضل تخاذلهم، ومستواهم التعليمي المتدني، وعدم قدرة البعض على الجأر بالشكوى لحظة حدوثها، وعدم معرفتهم حقوقهم، وحاجتهم الماسة للعمل والترزّق، الأمر الذي يجعلهم يبتلعون الموس بالعرض، ويصبرون على مضض على ما يجري عليهم، ولكن الأسوأ أن يستمرئوا هذه التصرفات التي تقع عليهم، ولا يجدوا فيها غرابة، بل الغرابة حينها تكون في المعاملة الحسنة السوية الآخذة بإنسانية الإنسان في المقام الأول.
لقد صارت العمالة المهاجرة، وبالتحديد عاملة المنزل، ركناً أساسياً من يوميات الحوارات الأسرية، عما فعلت، ما قالت، وما صنعت، وإذا خرجت، في حيرة لا يمكنني تفسيرها في اعتبار هذه العاملة جزءاً من الأسرة، تنطبق عليها المعايير المحلية في النظرة للأمور، خصوصاً المسالك الاجتماعية، إذ نريدها كما نريد لأنفسنا، متناسين الكثير من الفوارق الاجتماعية والدينية في الكثير من الحالات، والسلوكية والثقافية، والبيئية، وننسى أنها لا تحمل اسم العائلة ذاتها، ولا تنتمي بصلة القرابة مع من تعمل عندهم، ومع ذلك يعاملونها – في هذه الناحية فقط – معاملة من تمثل العائلة. ولكن من الأسر (لا يمكنني الجزم بمقدار هذه النسبة ارتفاعاً أو انخفاضاً)، تعاملها في الوقت نفسه كما لو كانت مروحة في السقف، أو مكيف هواء، بل حتى هذه الأجهزة نشفق عليها أحياناً لكثرة ما تعمل، ونطفئها لإراحتها، بينما عاملة المنزل يجب ألا تتوقف عن العمل مادامت تعمل لدينا. وفي الوقت الذي تهلل سيدة المنزل مع المهللين بقدوم الخميس الونيس، لأنها سترتاح من “عناء” العمل، فإنها لا ترضى – في المقابل - أن تنعم “موظفتها” بيوم واحد للراحة. وبينما يحرص “ذكورنا” على السعي إلى المساجد إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فإنهم لا يرضون أن تسعى العاملة إلى دار عبادتها، بحجج دينية لا أدري مدى صحتها، أو بحجة أنها ستختلط هناك بالأخريات والآخرين، وستبدأ بنشر الغسيل، وربما يسهل هربها أو قيامها بما لا يرضينا! هذه العلاقة المترددة بين المنتمي واللامنتمي  لا يمكن فهمها إلا بمنطق الاستحواذ والتحكم والاستعلاء.
قد يرى الكثير من أرباب البيوت (ورباتها في الأساس) أنهم يعاملون عاملاتهم بمنتهى العدل والإنصاف والإنسانية، وذلك بأنهم يشترون قنينة شامبو أو أنها تأكل مما يأكلون، وتسكن في غرفة بها مكيف هواء، ويكفي أن لا أحد يضرب العاملة أو يتحرش بها، وماذا تريد أكثر من أن راتبها يصل بلدها كل شهر؟! غير أن ليس هذا كافيا لكي ننتظم معاً على درب الإنسانية، وليس كافيا أبداً أن ندّعي أننا وفرنا الحقوق كافة لهن، فليتّق الله من لديهم عمّالاً وعاملات، وليرتقوا بهم معهم بحسن المعاشرة، وتوفير الكرامة، والوقوف للحظة لتقمّص دور الطرف الآخر فيما لو تعرّض هو للمعاملة نفسها ليرى أيقبلها لنفسه أم لا. أيقبل أن يُصفع، أو يهان، أو ينام في مكان غير لائق... الخ؟.
ربما تهدف هذه المسابقات التي تسلط الضوء على هذا القطاع من البشر الذي يزيد في البلدان الخليجية عن نصف عدد السكان، صرنا أقليات في أوطاننا، ولكننا أقليات متوحشة أحيانا، وقاسية أحياناً، أنانية باردة لا تنظر إلا إلى نفسها. بحاجة اليوم أكثر من أي وقت لا أن نعتبر الآخر، خصوصاً الأقل دخلاً أنه “إنسان”، ولكننا بحاجة للتنقيب عن الإنسان الذي بداخلنا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية