العدد 2673
الإثنين 08 فبراير 2016
banner
ذرائع
الإثنين 08 فبراير 2016

النبش والتنظيف والتخلص من الأوراق القديمة، غالباً لا ينتهي بالنسبة لي بأن أتخلص من أشياء كثيرة، فأتوقف عند التصفية عند أوراق كثيرة، أسبح فيها وأغوص وأستعيد الذكريات، بحلوها ومرّها، وغالباً ما ينتهي التردد ما بين الرف وسلة المهملات، للعودة إلى الرفّ من جديد.
واحدة من الملفات التي تأرجحت يدي بين رميها والإبقاء عليها، تلك التي كانت تحمل أحلاماً عريضة لجامعة الخليج العربي عند تأسيسها، حيث كانت هناك برامج لعلوم الفضاء، وبرامج أخرى لعلوم البحار، وطموحات بعرض الفضاء واتساعه، حيث كان الهدف من إنشاء الجامعة الخليجية المشتركة طرح حزمة من البرامج غير التقليدية، التي لا تدرَّس عادة في الجامعات الخليجية، فتكون جامعة الخليج العربي الإضافة النوعية لجملة الجامعات الخليجية القائمة. وبالتالي الإضافة العلمية النوعية لإقليمنا الذي بالكاد – في تلك الفترة – يلتفت لما يجب عليه أن يحضّره للمستقبل، خصوصاً أنه لم تمرّ – في تلك الفترة – عشر سنوات على استقلال ثلاث دول منها، وأموال النفط بعد انتعاش أسعاره كانت بالكاد تصبّ في موازناتها بسخاء، وتتوزع المشاريع وكلّ يطلب نصيبه وحصّته من هذا المال السيّال بكثافة.
الدول العربية السبع التي أسست هذا الحلم العلمي، سرعان ما انسحب العراق من حصته من التمويل، فبدأ في حربه الطويلة مع إيران التي امتدت من 1980 إلى 1988، واستنزفته من نواحٍ عديدة، كما استنزفت المنطقة بأسرها، ففقد الحلم أحد أضلاعه المهمة المعتمد عليها في الرفد والتنفيذ، فقد رافعة من رافعاته، والتشارك في إقامته وصيانته. وما هي إلا سنوات قليلة حتى تدهورت أسعار النفط تدهوراً فاق ما نحن عليه اليوم، وتدنّى سعر برميل النفط لأقل من 10 دولارات، فوقفت الدول الأعضاء غير حائرة كثيراً ما بين الأساسيات والكماليات، وفي العادة، فإن التعليم، خصوصاً التعليم العالي، لا يُعتبر جزءاً من الأساسيات، فجرت عمليات تضحية بأمور عدة من ضمنها الحلم العلمي المشترك، ولا أعلم إن كانت هذه التضحية مصحوبة بألم أم لا، فتم قرض الحلم من أطرافه، وتأخر التزويد، وتلكأ الممولون، واثّاقلوا، ولعبت أيضاً الاختلافات في التقويم، واحتساب السنة المالية تبعاً لذلك، وربما أيضاً كان للمواقف السياسية بحسب ارتفاع أمواجها وانخفاضها، والخلافات الحدودية المستمرة والمتطاولة، دورها في رغبة في إنجاح أو إفشال هذا المشروع، فتم شدّ الحزام إلى آخر مدى، حتى يتم تجاوز هذه الأزمة المالية، وهذا ما تم.
 بدأ الحلم يتنفس الصعداء، فلقد توقفت الحرب الطويلة أخيراً، وتوازنت أسعار النفط، فلم تمرّ فترة كافية على استراحة المراقب، حتى دخل الخليج في أزمة أشد وأمضى، وهي غزو العراق للكويت، وبالتالي تجميد عضوية العراق في مكتب التربية لدول الخليج العربية، وفقدان دوره من جديد، وتجمّد الحلم بإصابته بفقر الدم الدائم، ما حدا بآبائه لأن يستعدّوا – آسفين – لإقامة صلاة الجنازة عليه، ويستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم من هذا الحلم الذي استحال إلى كابوس بفقده وتسرّبه من بين الأصابع، فلقد وصلت خياراتهم إلى طريق مسدود، وبات عليهم أن يودّعوه. ولكن، وبالإبقاء على بصيص الأمل، تم إنقاذ الجامعة من أن تكون ماضياً أو جزءاً من الماضي، وتمت المحافظة على ما يمكن أن يقيم أودها، وبدأت تتجدد وتستقر أمورها، ولكن بقيتْ الطموحات الكبيرة خارج نطاق التحقيق، واستحالت حلم ليلة صيف بالنسبة للمؤسسة، وطموحا ليس في محله (ربما) للأطراف الراعية والممولة.
 لنتصور أن بعضاً من هذا الحلم متحقق منذ 30 عاماً تقريباً، ولدينا متخصصون مؤهلون في علوم البحار، ونحن دول تطل على مسطح مائي عشنا فوقه ومن خيرات ما في باطنه، مسطح ينتاهبه الخطر من كل جانب: تلوّثاً، وتملّحاً، وحيوات بداخله، ألم يكن حالنا مع هذا الماء المالح أفضل، واستطعنا فهمه أكثر، واسترضاءه أكثر؟!
لنتصور أن هناك برنامج علوم الفضاء – على سبيل المثال – ألم يكن في استطاعة هذه الدول أن يكون لها برامج خاصة بالفضاء والأقمار الصناعية، والمنافسة الحقيقية في هذا المجال الحيوي بدلاً من ألا يقال عنا، ولا نقول عن أنفسنا إلا أننا أصحاب أكبر طبق كبسة، و”مفطّح”، ولا يمكننا الخروج من هذه الصورة النمطية، ونجتر السياط لجلد ذواتنا؟!
من أشد النكبات التي منينا بها أن ما تم تضييعه من أموال وأعمار وطاقات وأفراد وفرص، كان بإمكانها أن تجعلنا اليوم أٌقل قلقاً من تدني أسعار النفط، حيث يمكن أن تهمنا، ولكنها لا يمكن أن تغير سياسات الدول الخليجية بأجمعها تجاه المعالجة. فما قد تسرب من أموال، كان كفيلاً بترسيخ مشاريع علمية كبرى، ليُتبع العلم بالعمل، وذلك بدورات إنتاجية متكاملة ليست بدعاً من الأمر في شيء، وليست تقام لأول مرة في العالم، فكما عملوا يمكن أن نعمل، ونخطوا الخطوات الأولى التي يمكننا من بعدها توطين الصناعات. ومع كل ما تقدم فلا تزال الفرص قائمة، والأموال القادرة على إحداث الفرق موجودة، والطاقات، والرغبات، وكذلك الأحلام لا يزال بعضها قائماً، وبعضها يحتاج من ينفض عنها الغبار، وهناك من الأحلام ما لم يجر النوم عليه بعد، فهو في أذهان الشباب الذي لا نعرف حتى اليوم طبيعة طاقاتهم، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه أحلامهم.
“السعيد من اتعظ بغيره” كما يقال، ونحن لسنا سعداء حقيقة، لأننا لم نتعظ بغيرنا من الذين ركنوا إلى الدهر وتصاريفه، ولا اتعظنا من أنفسنا جراء ما جرى لنا، وها نحن ننسى ونعيد الكرَّة مرة أخرى، فما ان يمرّ هذا الوقت العصيب، حتى سنرانا نعود سيرتنا الأولى من الاغترار بالمال والإنفاق وخدمة أفراد على حساب المجاميع، وسنعود لنبعثر أحلامنا سدى، فلا أبعد من الأنف ليرى.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية