العدد 2775
الجمعة 20 مايو 2016
banner
كيف نفهم صعود ترامب أميركياً؟ (2)
الجمعة 20 مايو 2016

الأمر المهم هو مستقبل العولمة، وهل تمضي وفق نسقها الراهن، أم تتراجع تحت وطأة انحسار قوة الدفع الأميركية؟ الإشكالية في هذا الإطار أن العولمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة التفوق الأميركي، والرغبة في عولمة النموذج الاقتصادي والثقافي، وهنا تبدو المعضلة، فالشكوك التي تحيط بالنموذج من داخله ستؤثر حتماً على محاولات إشاعته عالمياً، حيث ستواجه القيم الأميركية تحديات داخلية فضلا عن التحديات الخارجية التي تواجهها من جانب الدول والقوى التي تشكك في مثالية هذه القيم وجدواها للبشرية.
أحد مداخل العولمة هي القوة الذاتية الأميركية، التي تكمن منذ بداية السيطرة على مفاصل النظام العالمي في القوة التكاملية للنموذج، من الثقافة إلى الفنون إلى الصناعة والاقتصاد والحريات وحقوق الانسان وغير ذلك، ولكن هذه القوة خضعت دوما للصراع بين تياري الانعزالية والقيادة في السياسة الخارجية الأميركية، ويشهد التاريخ الأميركي فترات مد وجزر عدة على هذا الصعيد. فالرئيس الأميركي السادس جون كوينسي آدامز (1825 ـ 1829)، كان يعكس هذا الصراع حين قال في مواجهة دعاة التدخل في الحرب اليونانية من أجل الاستقلال “الولايات المتحدة لا تذهب إلى الخارج بحثا عن الوحوش لتدميرها”، ومن ثم فإن مصير العولمة ومساراتها يبدو رهن هذا الجدل إلى حد كبير.
يجب أن ننتبه أيضاً إلى ان أفكار ترامب أو غيره ليست صكاّ على بياض قابلا للتنفيذ، فهناك مؤسسات تشريعية وقيود دستورية وقانونية ربما تجعل من الكثير من هذه الأفكار مجرد حبر على ورق، فالإنفاق العسكري ـ على سبيل المثال ـ من الأمور التي تتصدر اهتمامات الجمهوريين سواء في البيت الأبيض أو الكونجرس، ومن ثم يبدو حديث ترامب عن التقوقع وبناء الأسوار الحدودية وطرح الأجانب، نوعا من الخيال السياسي، وهناك تحذيرات عدة من خبراء استراتيجيين أميركيين معتبرين بأن التوجهات الاتعزالية تضر بالأمن القومي الأميركي، وتدمر استثمارات أميركية تاريخية على صعيد بناء التحالفات.
وكي نفهم ما هو قادم أميركياً بشكل أدق، علينا أن نفرق اصطلاحيا بين مفهومي التطرف والتقشف في إدارة السياسة الخارجية الأميركية، وهما مفهومان مرتبطان بتوجهات السياسة الخارجية الحالية وربما اللاحقة، فما يتبعه الرئيس أوباما هو في الحقيقة سياسة تقشفية على صعيد التدخلات العسكرية، وهي ايضاً نتاج نقاشات علمية حول جدوى القوتين الناعمة والخشنة، وهي نقاشات أسفرت عن مزيج “القوة الذكية”، حيث التركيز على تحديد الأهداف والوسائل بدقة قبل اختيار بديل التدخل الخارجي، وربما لا يكون أوباما هو الرئيس الأميركي الأول على درب التقشف في توظيف القوة العسكرية وترشيدها، حيث سبقه عديدون منهم نيكسون وايزنهاور وكارتر.
وأعتقد أن المدى المنظور على الأقل لن يشهد انعزالاً أو انخراطاً أميركياً في الأزمات والقضايا الدولية، بل استمرارا لنهج متوازن بين فكرتي الانعزال والقيادة، وبما يضمن استمرار السيطرة الأميركية على مفاصل النظام العالمي بأقل قدر من التكلفة الاقتصادية والأعباء العسكرية والاستراتيجية، وهي أمور يجب أن نتعامل معها ـ كعرب ـ بواقعية، بدلاً من انتظار التغيرات المتوالية في البيت الأبيض. إيلاف.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية