العدد 2802
الخميس 16 يونيو 2016
banner
اللعنة على ابن عمّه
الخميس 16 يونيو 2016

لا يكاد يمرّ عليّ أسبوع إلا ويخفض المتحدث معي صوته، ويرمق بعينيه ذات اليمين وذات الشمال، وهو يقول: “أتريد الصدق أم ابن عمّه؟!” وبطبيعة الحال فهو لا ينتظر مني جواباً إذ ينطلق في رواية “الصدق” من وجهة نظره طبعاً، إذا، من ذا الذي يريد ابن عمّه؟!
إن وجود “ابن عمّ الصدق” شيء مثير للريبة، إذ إن هذا يعني أن لكل قصة أو واقعة أكثر من رواية، وكل واحدة منها تقال في الظرف المناسب، فكلما كان الصدق صعباً، وبانت احتمالات التهديد في الرزق؛ ظهر للرواية أبناء عمومة كثر وغالباً ما تكون الروايات بما يناسب المستمع، بما يرتاح إليه، ويطرب للاستماع إليه، ولكن الفشل يأتي في التطبيق، أو ينُسب إليه ما لم يفعل، وتعلق على صدره أنواط الإنجاز، بينما الفاعلون الحقيقيون يضرسون.
ومع أن ابن العم يفترض أن يكون من نفس السيج، إلا أننا نخفف الموضوع بعدم المقارنة بين الصدق ونقيضه، ولكن نشير إلى ابن عمه، ربما ما هو أقل من الكذب، ودون الحقيقة.
قد يكون ابن عمّ الحقيقة يتمثل في قصة يرويها أحد الأصدقاء المولعين بالبحر، إذ تقام مسابقة لصيد أنواع معينة من الأسماك، فيطلبه أحد المولعين بابن عمّ الحقيقة، ومعه عدد من رفاقه، لمعرفتهم بمواطن تواجد هذا النوع من الأسماك، ويبدأون بالصيد بكل همّة ونشاط، ويملأون اليخت بصناديقه، ويقفلون عائدين، يفوز صاحب اليخت، الذي كان طوال المسابقة مرتخياً فرحاً بعدّ الأسماك كلما انتشلها أحد الشباب من البحر، ويصعد لوحده على منصة التتويج، يتلقى الكأس والمكافأة المالية، يحتفظ هو بالإنجاز والكأس والصور، ويوزع المكافأة على الصيّادين الحقيقيين، ويزيدهم من عنده. كذبة، غير ضارة ربما، ولكن تعوّد محبو أبناء عمومة الصدق، أن ينسبوا إلى أنفسهم إنجازات لم يفعلوها، ومع مرّ الزمن، لا يقبلون إلا بالبطولات، ومع مرور مزيد من الزمن يصدّقون أنهم هم من يتصدر، وينجز، ويعتادون أن يبذل الآخرون كل جهدهم في دراسة مشروع ما، أو خطة معقدة، أو تحقيق نجاح أو إنجاز من أي شكل كان. يبدأ ابن العم يتناسل، ويتطاول، ويزيد عدد أبناء عمّ الحقيقة، ولذا ليس على أحد أن يسأل عن الإنتاجية، والولاء للمؤسسة، والدافعية، وغيرها، إذا ما كان كل ما يُفعل سيسجل باسم من لم يفعل شيئاً.
وهذا الأمر لا ينطبق علينا وحدنا في هذه المنطقة، أو هذه الثقافة، ففي بعض من الوصايا الآتية من الغرب، يشير البعض الى أن لا تتحدث وتدلي برأيك قبل مديرك، يجب عليك أن تكمن في زواية ما من الاجتماع، ليقول هو رأيه، عندها اقفز وأيدّ رأيه وعززه بما تستطيع من الحجج، لأنك إن قلت رأيك (الحقيقي) في أمر ما، وتبيّن أنه ليس على وفاق مع رأي من يليك رتبة، فعليك أن تعدّ أيّامك الأخيرة فيها، وأن تبدأ تتلفت إلى مكان آخر للعمل، وتجهّز صناديق الورق المقوى لتضع فيها متعلقاتك الشخصية للمغادرة. وهذا نوع أيضاً من اللف على الحقيقة، وتكريس آخر من البعد عن الشر والغناء له من بعيد، لعلّه يرضى أن يكفّ أذاه عنّا، والمحافظة على لقمة العيش وإن كان على حساب العيش بازدواجية، بين ما تؤمن به حقيقة، وما هللتَ له للتو بابتسامة بلاستيكية، ونبرة صوت حاذرت ألا تبدو غير طبيعية في حماستها المفرطة للرأي الموافق للرأي الذي قاله سيّد الموقف، وهذا السيد قد يكون رئيس قسم، أو رئيس شركة، لا يهم، فالهرم واحد، والكل يتنافس في الإطار نفسه على سيادة أبناء أعمام الحقيقة التي تبقى حبيسة الهمس.
في الموازنة بين الصدق وابن عمّه، تقف أحياناً الموازنة بين المصلحة الشخصية بالسلامة والأمن الشخصي، ومصالح عامة. هناك ما يسمى بكلفة الفرص البديلة في العلوم الإدارية، أي الفرص التي يكون فيها المسؤول، على المستوى الفردي، أو المؤسسي، بين مفترق طرق، فيضع جميع الدراسات والاحتمالات للخيارات جميعاً، ويعرف أنه لا يمكنه العمل على الفرص جميعاً، ولا سلك الطرق معا في الوقت نفسه، ولكن لابد عليه أن يختار، وهو يعلم أن أي اختيار سيحجب الفرص الأخرى، ولكن ليس عليه إلا أن يقرر، يعقلها ويتوكل. فإذا كان من حوله مرعوبين من ردّ فعله حينما يخالفونه، فعليه أن يحسب كلفة الفرص البديلة، والفرص الضائعة التي تذهب سدى نتيجة عدم القدرة على قول ما يعتمل في النفس.
عندما أرى الصحف وقد شحنت بصور الاجتماعات على مستويات شتى، وفي قطاعات مختلفة، وفي ميادين اقتصادية ورياضية وخيرية وتطوعية، يمكنني أن أحدس بنوعية غالبية الحوارات التي تدور في القاعة، والقناعة التي سادت، والقرارات التي اتخذت، وكيف أن شخصاً واحداً يمثّل سعة الصدر والتعاطي مع الأفكار، وصفّ على الكراسي دمى ليس على فمها غير أبناء عمومة الحقيقة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية