العدد 2835
الثلاثاء 19 يوليو 2016
banner
العراق ولجنة “تشيلكوت” والفوضى الإقليمية
الثلاثاء 19 يوليو 2016

صحيح أن العراق يعاني أزمة وجودية ومصيرية غير مسبوقة لهذا البلد العريق في العصر الحديث، لكن صحيح أيضاً أن السبب في هذه الحالة المزرية هو السياسات الطائفية التي يتبناها المسؤولون والأحزاب التي يدعم أغلبها النظام الايراني بشكل فج وواضح، ومن سوء التقدير القول إن وضع العراق الآن هو نتيجة مباشرة لسقوط حكم صدام حسين، فالجميع يعرف أوضاع العراق حين كان صدام جالساً على كرسيه، والجميع يعرف أيضاً أن أوهام صدام وسياساته الحمقاء هي التي فتحت الباب أمام تنفيذ خطط الخارج والمتآمرين الإقليميين للتحكم في مصير العراق والمنطقة بأكملها. ولنتذكر جميعاً تلك المبادرة التاريخية التي حاول المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه طرحها على القمة العربية بمصر في مارس عام 2003، كي تتبناها وتعرضها على صدام حسين لإنقاذ مستقبل العراق من مغامراته قبيل الغزو مباشرة، حيث سعت تلك المبادرة إلى انقاذ العراق وشعبه وكانت كفيلة بإنقاذ العراق والمنطقة بأكملها من المآسي التي مرت بها ولم تزل قائمة، ولكن المبادرة غُيبت واختفت أو بالأدق أُخفيت في أروقة القمة العربية وقتذاك، حيث قال سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان تصريحه الشهير في الأول من مارس 2003 في شرم الشيخ، والذي قال فيه “إن العرب فقدوا لسوء الحظ برفضهم حتى مناقشة مبادرة الإمارات آخر امل لحل عربي للأزمة العراقية”، ما يعني أنه كان هناك نوع من استشراف وتقدير للأخطار الاستراتيجية التي ينطوي عليها المشهد الإقليمي وقتذاك من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، التي يزعم البعض الآن أنها تدفع باتجاه الفوضى!
أقول هذا الكلام بمناسبة ظهور موجة لطم للخدود وجلد للذات من جانب المتباكين على الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عقب ظهور نتائج التحقيق البريطاني في حرب العراق عام 2003؛ حيث يجب أن ندرك العديد من الأمور أولها ان التحقيق لم يكن يستهدف البحث عن المسؤولية الجنائية في مقتل مئات الآلاف من الجنود والمدنيين العراقيين خلال تلك الحرب بل تحديد المسؤولية التاريخية عن خوض بريطانيا هذه الحرب التي تسببت في معاناة مئات الأسر من البريطانيين، والأمر الثاني أن هذه النتائج لا يجب أن تطغى على حقائق موازية ودامغة مثل دور صدام حسين في الإرباك الاقليمي الحاصل حتى الآن في المنطقة منذ احتلاله المشؤوم دولة الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990.
بريطانيا أو غيرها لا تشعر بالحزن والندم على ضحايا غزو العراق كما يتصور البعض، فالأساس في مثل هذه المحاسبات والتحقيقات هو نقد الذات واستلهام الدروس والعبر سياسياً من تجارب الماضي وتوضيح الحقائق للأجيال الحالية والمقبلة، فتقرير لجنة السير جون تشيلكوت رئيس لجنة التحقيق في الدور الذي لعبته بريطانيا في غزو العراق، أشار بوضوح إلى أن “التحرك العسكري ربما أثبت أن إيقاف صدام حسين كان ضروريا في مرحلة لاحقة إلا أنه لم يكن الملاذ الأخير في ذلك الوقت، وأنه عندما أُرسل الجنود البريطانيون من الرجال والنساء إلى العراق للمخاطرة بأرواحهم لم يكن هناك تهديد وشيك”. فالإشكالية بالنسبة لبريطانيا أن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير لم يستنفذ الخيارات السلمية لنزع السلاح العراقي وقتذاك، وأن التحرك العسكري لم يكن قد حان وقته.
ما يهمنا كدول وشعوب المنطقة في هذا التقرير الآن أن الواقع الراهن المؤلم للعراق لم يكن غائباً عن تقديرات الاستراتيجيين في مرحلة ما قبل الغزو، إذ قال التقرير صراحة “إن مخاطر الاقتتال الداخلي في العراق، والسعي الإيراني الحثيث وراء مصالحها، وعدم الاستقرار الإقليمي ونشاط تنظيم القاعدة كلها أمور جرى تحديدها بصورة واضحة قبل الغزو”، وفيما يتعلق بالتدخل البري، كان مجلس الوزراء البريطاني، كما يقول التقرير، على علم بـ “عدم ملائمة” الخطط الأميركية.
من الضروري الانتباه إلى أن نتائج تحقيقات اللجنة التي تم تشكيلها عام 2009، بعد انسحاب آخر جندي بريطاني من العراق بناء على طلب رئيس الوزراء السابق جوردن براون، وتناول تقريرها الفترة من 2001 الى انسحاب القوات البريطانية، وجاء بعد سبع سنوات من العمل ومقابلة عدد كبير من الشهود وفحص آلاف الوثائق، تبحث في حدود المسؤولية السياسية والقانونية عن مقتل أكثر من 200 بريطاني، بما فيهم 179 جنديا بريطانيا، علاوة على إنفاق أكثر من 8 مليارات جنيه أسترليني للمشاركة في الحرب حسبما تقديرات أوردتها صحيفة “فايناشيال تايمز” البريطانية، وبالتالي فهي لا تبحث في مصير صدام ولا مسؤولية مقتله.
لا أميل كثيراً إلى التحليل القائل إن الأمور في المنطقة خرجت عن نطاق سيطرة الولايات المتحدة وتصوراتها الاستراتيجية لإدارة مرحلة ما بعد صدام حسين اقليمياً وهي المرحلة التي انتهت بظهور تنظيم “داعش” وسيطرته على جزء كبير من أراضي العراق وسوريا، وقناعتي الأساسية أن “داعش” وغيرها من تنظيمات الارهاب ليست سوى أدوات في حروب الجيل الرابع، التي ظهرت فعلياً بعد الخسائر الأميركية الكبيرة في حربي العراق وأفغانستان، ما دفع المخططين الاستراتيجيين إلى ابتكار “أدوات” جديدة أو توظيف القائم منها أو تهيئة البيئة لظهورها، وهنا لا يمكنني مسايرة من يقول إن فيروس “داعش” تم تخليقه في مختبرات الاستخبارات الأميركية، ولكن الشواهد تؤكد أن هذا الفيروس تم توظيفه بشكل مباشر أو غير مباشر وبشكل دقيق للغاية لتحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية في مرحلة ما بعد الفوضى الخلاقة، فلم يكن داعش أو إيران وميلشياتها لتتمدد في العراق وتتوسع لولا سلسلة من “الإجراءات” ولا أقول الأخطاء الممنهجة التي تسببت في أن تؤول الأوضاع في العراق إلى فوضى عارمة.
هذه الممارسات التي تصب في سلة تحقيق أهداف الدول والقوى الكبرى هي التي أطلقت مارد الارهاب من “قمقمه”، ولا يجب أبداً تحميل المسؤولية إلى دول المنطقة أو القائها على الدين الإسلامي والسلفية وغير ذلك، فالإسلام ليس نتاجاً حديثاً كي ينتج كل هذا الكم من الارهاب الآن، فهو دين ارتكزت عليه حضارة ضاربة في عمق التاريخ، ومن ثم يبدو الربط بينه وبين الارهاب الآن بمنزلة تبسيط مخل للأمور وتفريغ لها من أبعادها الاستراتيجية الحقيقية. إيلاف.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية