العدد 2848
الإثنين 01 أغسطس 2016
banner
زراعة الأمل
الإثنين 01 أغسطس 2016

في أواخر شهر يونيو الماضي، تشرفت أن أكون أحد أعضاء لجنة التحكيم للمحتوى الإلكتروني الإيجابي المؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي المسابقة التي أطلقها نادي الإعلام الاجتماعي في البحرين. راح الفريق ينظر في عدد من المرشحين، في مواقعهم ووسائل اتصالهم، وفي الأثناء كنت أتساءل: أين أنا مما أبحث عنه؟ بصرف النظر عن التأثير... هل أنا سلبي أم إيجابي؟!
من تم الاستقرار عندهم في القائمة القصيرة التي ضمت حوالي 60 شخصاً، بمواصفات معينة، كانت “الإيجابية” واحدة من أهم السمات المشتركة التي توافقت عليها لجنة التحكيم، وهي سمة – في الغالب – غير جاذبة للمتابعين، وغير مستقطبة للجدد من الأشخاص الحقيقيين منهم والوهميين، فغالبية المتابعين لدينا يتمنون النائحين من الذين يشبهونهم، يرغبون في المقاتلين من المغردين و”السوشليين”، يمنحون آذانهم وقلوبهم، وأصواتهم، وإعادة تدوير كلامهم وتغريداتهم للأكثر شراسة، والأقذع سباباً، والأسلط لساناً، والأكثر استعراضاً ببذاءته التي لا تقف عند حد وأنت ربما أحسنت الظن أنه سيكون من القلة الناجين من السباحة في بحر لجّي من القاذورات اللزجة، التي تعلق بالذاكرة حيناً من الدهر، ومن الصعوبة محوها، أو تبريرها، أو إيجاد مخرج لها، وإن قيل عن ألم صاحبها ما قيل وما قد يقال.
يغلب الكدر على أيامنا، تغلفها الكآبة، تنوء الأخبار السيئة بكلكلها على أنفاسنا أجمعين. من يستمع إلى الأخبار، ولو كانت “مواجيز”، لن يلقى فيها سوى الدمار والهلاك، وسيضيع منه عدد الموتى والقتلى والمنتهكين في كل نشرة، والغالبية العظمى منهم، هم أنت، وأهلك وأناس يعنون لك في العراق أو في اليمن، في سوريا أو في ليبيا، ناهيك عن أناس من دول العالم تشترك معهم تحت مظلة الإنسانية الواسعة. تتراكم الهزائم على صدورنا، تتكاثف في رئتينا الأخبار الأسوأ فالأسوأ، نزفر هواءً ثقيلاً جراء ما نتعاطاه يومياً، نكحّ رذاذاً قطرانياً.. كيف لا، وكأننا الجالسون إلى حداد، إن لم نصب بشرار متطاير مما يطرق، لم نعدم سخام حديده المحمّى. ومع عدم إيماني الشخصي بـ “الريكي” وما يلف حوله من أمور، وما يدور في فلكه من طقوس ومسميات، فإن البعض يشير إلى أن الحديث السلبي مع النبات قد يعيق نموّه، ويعمل على تشويه مسيرته، فكيف الإنسان الذي يعمل ليلا ونهارا على مخاطبة النفس (التمثيل الداخلي)، فكم ستتشوّه نفسيته إن لم يجد ما يردده بينه وبين نفسه سوى هذا الكمّ من السخط والتذمر؟!
ننقلب إلى الصحف، لنجد الكم الكبير من كتابنا يرددون الشكاوى ذاتها، مستعملين المفردات اليائسة نفسها، بين قاهر ومقهور، وغالب ومغلوب، وشاكٍ ومشتك ومشتكى منه ومشتكى عليه، ومطالبات تبدأ من الجو ولا تنتهي بالقوى العظمى على الكرة الأرضية، في “غلفة” من الزمن عن من نكون، وعن حجمنا، وتأثيرنا، وقدراتنا، وقواتنا المختلفة، حتى نمارس كل هذه الوصايا على العالمين.. أرجو ألا أكون منهم، وإن كنت فأرجو أن أقلع عن هذه العادة السيئة المدمّرة لي ولمن ينكبهم الحظ بالقراءة، كما أقلعت ذات يوم عن التدخين عندما لاحظت أنه – فوق فتكه المعروف بالصحة – لم يعد مغرياً ولا ممتعاً البتة. والسلبية ليست أقل فتكاً ولا أهون خطراً على النفسية والنفس، فتحيلها إلى عالم من المستنقعات الآسنة، والروائح العفنة، فلا تعود تستمتع بشيء في هذه الحياة، وتتمنى الفناء العاجل لنفسها وما حولها، وهذه بعض مما يعاني منه هذا الجيل، إذ إنه يتوقع أن الحياة الآخرة ستكون أفضل له من الحالية إن سارع في الرحيل، وحتى يكون رحيله خطاً سريعاً إلى الجنة، فعليه أن يقطف معه بعض الأرواح الشريرة، ليخلص العالم منه، ويكون بذلك انتقاله إلى العالم الآخر، هو انتقال إلى حيث “الشهداء” بحسب ما يعتقد. فلو كانت الطاقة الإيجابية السائدة في مجتمعه، وهي الطاقة المتأتية من أوضاع إيجابية، أو تسير نحو الإيجابية يوماً بعد يوم، ولا امتلأت نفسه بكل هذا الهلاك.
صحيح أن سرعة التغيير في ما حولنا من مبانٍ ومعانٍ وأنماط الحياة، تجعلنا غير مستوعبين لها بشكل جيد، وصحيح أن المنافسة في معظم الأمور، حتى في أبسطها، أصبحت عالية، وصحيح أنك بدأت ترى الكثير من الناس يلمعون بلا سبب حقيقي بل لمصادفات مختلفة، وصحيح أن الكثير منا يرى أنه يتقدم في العمر من دون تحقيق الأهداف الكبرى التي اعتنقها في شبابه، أو أنه يرى أن أيام العمر تتسرب من بين يديه من دون أن تكون له بصمات تذكر، وكل هذا يقود إلى أنماط متعددة من السلبية، ولكن لابد من وضع نهاية لهذه الدوامة، وإلا فإنها ستكون كفيلة للفتك بالإنسان من ناحية الأمراض العضوية التي من السهولة أن تهاجم الجسم جراء ضعف جهاز مناعته الذي انصرف لتعظيم صراع النفس مع النفس.
إننا لنعجب من هؤلاء الذين يقسمون أنهم يحبون هذا الوطن لدرجة الافتتان به، والاستعداد للموت من أجله، وتفدية ترابه، ولكنهم لا يملأون فضاءاته إلا كدراً ومللاً ويأساً وقنوطاً، ويشحنون مساحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي بكل ما يطفئ البسمة من على الشفاه، ويطرد الفرح من الرؤوس والأجواء. السلبية تقود في الغالب إلى الكراهية واليأس، وهذا ما يقود إلى الكفر بكل شيء، بما فيه الوطن، واستسهال تركه عرضة للنهش.
السلبية انسحاب، ولا يمكن للمنسحب أن يبني ويعمّر، ولا يمكنه أن يندفع ويدفع الآخرين لفعل ما هو أفضل، ولا يحسن إلا الانتقاد، وهو أسهل الأفعال التي لا تتطلب جهداً من اي نوع، فكما قيل من باب المبالغة: “لو أراد الشيطان أن يجد في القرآن عيبا، لفعل”. ولا عجب، فقد فعلها من قبل شياطين الإنس.
إيجابية التفكير لا تعني السذاجة، أو التحليق في عوالم من الخيالات غير الواقعية والأحلام غير ممكنة التطبيق، ولكنها دعوة للنهوض، خارطة طريق وطنية لتحصين الشعوب من ظلال اليأس، والدرع الواقي ضد أنواع الاختراقات التي نشكو منها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية