العدد 2858
الخميس 11 أغسطس 2016
banner
بحثاً عن الطريق الصحيح.. بحثاً عن من يرمي الصندوق
الخميس 11 أغسطس 2016

في مسألة الوحدة الوطنية، يجري الكثير من الحديث على مستويات الأقطار التي تُبتلى بطيف واسع ومتنوع من المنغصات، ربما يبدأ من القلق والتوجس، وينتهي بالحروب الأهلية، أجارنا الله منها ومن مغبتها. وهذا ما يجعل موضوعاً مثل “الوحدة الوطنية” من المواضيع التي يجري طرقها من أكثر من جهة، وبأكثر من مقاربة.
في محاضرة ألقيتها الأحد الماضي في “التقدمي”، أكد أكثر من حاضر أن مما يؤسف له أن مجرد أن يرد مصطلح “الوحدة الوطنية” على لسان أحدهم، حتى ينفجر خزان من السخرية والاستهزاء بالمصطلح، وكأنه بضاعة كاسدة، أو موضة قديمة، شأنها في هذا، لدى الكثير من الشعوب العربية التي حنى ظهورها العوز والفقر والجوع والانشغال بالذات والمحاولات المستمرة للنجاة من الانزلاق إلى فم الغول، شأن القضايا التي آمنّا ذات يوم أنها مركزية، وأننا (ومن سبقنا) كنا نتنفسها، لنكتشف اليوم، أننا امتلأنا بها لحد الثمالة، وما عاد لها وقع لدينا، وصارت لما ترد هذه العبارات، تمرّ من دون أن تحرك ساكناً فينا، بل وربما لا ننتبه إليها أساساً لكثرة ما اعتدنا عليها. هكذا صار مصطلح “الوحدة الوطنية”، ولكنه مغاير إلى حد كبير للكثير من المصطلحات التي غادرناها مجبرين، واضمحلّت كما اضمحلّ تأثيرها، وانطفأ أوارها، حتى أنني تجنبت أن “أعنون” على الوحدة الوطنية حتى لا يشيح القارئ عن قراءة هذا المقال!
“الوحدة الوطنية” تسمعها لدى بعض الخطباء بقولهم: “اللهم وحّد بين صفوفنا، وآمنّا في أوطاننا”، لتكتشف أن الصفوف هي الصفوف المشابهة المتشابهة، وليست كل الصفوف في الوطن على اختلاف تلاوينها، وتعدد مشاربها، واختلاف انتماءاتها، إذ لا يجوّز الكثير الدعاء لغير المسلم، والاعتقاد السائد بأن الدين ليس إلا ما دان به هو، وأن الآخرين على ضلال، وأن قبوله لهم هو فعل اضطرار، وليس نابعاً من القلب والضمير؛ لا يجعل للوحدة الوطنية معنى.
“الوحدة الوطنية” لدى البعض منا أن تكون مثلي تماماً، تنظر حيث أنظر، وتفكر كما أفكر، وتعتقد بالصواب والخطأ كما أفعل، وتقدّس الأشخاص أنفسهم، وتعتنق وجهات نظرهم، تهتف كما يهتفون، تحب من يحبون، وتكره من يكرهون، وهكذا تكون على العتبة الأولى من وحدتنا الوطنية، ولكن لن يُسمح لك بالدخول أكثر، أو الذهاب أكثر من هذا، إذ ماذا عن عرقك وأصلك؟ لو تجاوزنا هذا، ماذا عن ترتيبك في صفّ المكانة الاجتماعية في العرق نفسه؟ والسؤال الأعمق والمفجّر لأية دعوة للوحدة الوطنية: ماذا عن مذهبك؟ وهنا يأتي العائق الأكبر، مهما حاول الطيّبون التغاضي عنه، أو الإشاحة، فهذا هو الواقع الذي لا فكاك منه، فكيف تكون هناك وحدة وطنية على أسس دينية ومذهبية؟
لا أحد يطرح سؤال علاقة المذهب بالوحدة الوطنية، ولكن لو شئنا أن نكون أكثر صراحة مع بعضنا البعض، وأن نسعى صادقين من أجل وحدة وطنية حقيقية، فهذا هو المسكوت عنه. وواقعنا حالياً مسح المجتمع مسحة دينية، وألبسه هذه النظارة التي لا يرى الآخر إلا من خلال قربه وبعده من دينه، ومن مذهبه، بل ومن خصوصية طريقة مذهبه، فكيف يمكن أن تكون هناك وحدة وطنية والحال هذه، ونحن بين ديني وغير ديني، ومسلم وغير مسلم، وبين مذاهب وفرق في الإسلام نفسه تشظت في فضاء واسع ربما يصعب حصرها في ظل نفاق مجتمعي يجامل من خلاله الناس بعضهم بعضاً في الاختلافات البينية؟!
الكثير من الحلول التي يطرحها أصحاب التيارات الليبرالية تنطوي على ما يشبه إعادة تجربة فتح الباب بالمفتاح نفسه للمرة المليون، فلربما يعيد المفتاح تشكيل نفسه كما يريد القفل، أو ربما يملّ القفل كثرة التكرار، ويشفق، ويفسح مجالاً للمفتاح أن يستدير فيه وينفتح ما أغلق منذ زمن الرومانسيات التي لا يزال من عايشوها يتغنون بها وأعينهم تفيض من الدمع. فالدعوة صحيحة، ولكن كيف يرتجى زرعٌ بُذرت بذوره على الإسفلت؟ القبول مفتقد، والتجانس صعب، وقد تمت تجربة الحياء بين الأطراف في بدايات التسعينات من القرن الماضي عندما التقى الليبراليون بالدينيين من المذهبين لمحاولة تشكيل صفٍّ موحد أو متقارب على الأٌقل عند الحديث عن المسائل الوطنية، وليست الفئوية، ولكنها لم تكن سوى أشهر حتى تبين أن الخليط لم يكن متجانساً، وبدلاً من أن يعمل هذا الاجتماع على تأسيس لتجربة أكثر نضجاً بعد التعرف على إيجابياتها وسلبياتها؛ حدث ما حدث في 2011 بما طوّح بالكثير من بقايا الأماني والأحلام، بينما زادت سنوات تيه التيار الليبرالي، ليعود المهتمون باحثين عن المربعات الأولى حتى نبدأ من جديد، ولا ندري من ذا الذي سرقها منا لنضلّ الطريق.
ربما على المهتمّين بالوحدة الوطنية في البحرين، أن يدخلوا مختبرات جديدة اليوم، عليهم أن يمارسوا تمارين ذهنية لم يمارسوها من قبل، يجربوا طرقاً لم يسلكوها في السابق، أن يطمئنوا الجميع أن حقوقهم مصانة، والكرامة مضمونة، وخصوصيتهم باقية، على أن تتمدد المظلة على الجميع، غير منحسرة عن أحد، ولا عن جماعة، ولا طائفة، ولا فريق.
ربما على المهتمين بشأن الوحدة الوطنية أن يفكروا خارج الصندوق، ويصدّقوا بأنهم ليسوا هم رجال/نساء المرحلة، إذا ما كانوا جزءاً مما حدث، حتى وإن كانوا يحملون ما يحملون من صدق النية وصفائها، فأحياناً المحبة وحدها لا تكفي كما لا تكفي النوايا الحسنة. ربما علينا البحث عمّن يطوِّح بالصندوق نفسه الذي ظللنا نفكر من خلاله في مسألة الوحدة الوطنية، لنجرب التفكير مرة أخرى.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية