+A
A-

عُمال "كأس العالم" في قطر.. "قصص مهولة"

وسط أمواج عاتية تُحاول دول الخليج العربي أن تبقى مُستقرة، لكنها لا تلبث أن تجد نفسها في قلب الأحداث، تارة بالابتزاز، وتارة أخرى بالعنصرية.

ومع اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي العام 2011، والتي امتدت من شمال إفريقيا إلى عدد من دول الشرق الأوسط، ابتدع الغرب سياسة جهنمية لاختراق الأقطار العربية والضغط على حكوماتها للانصياع إلى إرادتها، وهو ما أثر في بعض الأحيان على الرياضة التي يفترض أن تكون بمنأى عن النزاعات السياسية.

ومن أبرز تلك الضغوطات ما تتعرض له دولة قطر في خضم سعيها لاستكمال تجهيزات استضافة نهائيات كأس العالم لكرة القدم في العام 2022 عبر حملة من الاتهامات والقصص المهولة، أبرزها ما أثير مؤخراً عن العامل البنغالي نديم شريف العلم، وقبله تقرير منظمة العفو الدولية.

"البلاد" حاولت التعرف على حقيقة الأمر، والنتيجة كانت أن المونديال هو في واقع الأمر "حُلم العرب" الذي يحاول سلبه الآخرون.. فإليكم التفاصيل:

 

 

غياب الأدلة

نديم شريف العلم، قصة جديدة تسعى لتشويه سمعة قطر الطامحة في أن تكون أول دولة عربية تنال شرف تنظيم واحدة من أكبر التظاهرات الرياضية في العالم، لكنها مجرد قصة في أحداث مسلسل مكسيكي طويل بدأ منذ إعلان رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم السابق جوزيف بلاتر فوز قطر باستضافة المونديال، إذ أصبحت القصص المتنوعة تترى عبر التقارير المُشككة في نزاهة تصويت اللجنة التنفيذية للفيفا منذ 2 ديسمبر 2010، ونُشرت الصحف الإنجليزية آنذاك تقارير تتهم قطر بشراء أصوات أعضاء في اللجنة التنفيذية، وهو ما دعا "الفيفا" لفتح تحقيق في العام 2011، لكنه سرعان ما أقفله لعدم وجود أدلة.

رغم ذلك استمر الحديث عن هذا الموضوع فترة طويلة دون أدلة وبراهين ملموسة، وأدعت مجلة "فرانس فوتبول" وجود صفقة سرية بين قطر وبلادها فرنسا؛ للحصول على صوت رئيس الاتحاد الأوروبي السابق ميشيل بلاتيني؛ بصفته عضوا في اللجنة التنفيذية المخولة بالتصويت على ملفات استضافة كأس العالم، إلا أنها لم تثبت بالمستندات، ما دفع الأخير إلى مقاضاة الصحيفة؛ كونها نشرت أكاذيب ملفقة.

 

 

سلب الحلم

هجوم الإعلام الإنجليزي والفرنسي لم يتوقف عن محاولاته في سلب الحلم الذي بدأ يعيشه الخليجيون والعرب، وطُرحت فكرة نقل مكان استضافة مونديال 2022 إلى بلد آخر غير قطر بحجة إقامة المباريات في معدل حرارة يصل إلى 50 درجة ما يُشكل خطورة على صحة اللاعبين والمشجعين، متناسين أن الملف القطري الذي فاز في استفتاء اللجنة التنفيذية كشف النقاب عن تقنية تبريد الملاعب ومناطق المشجعين، حيث تعالج مشكلة تعانيها المناطق ذات الحرارة المرتفعة مثل دول الخليج، واعتبرت الفكرة رائدة في مجال تطوير كرة القدم، لكن الهجوم الإعلامي الغربي تجاهل كل ذلك.

ولأن الضغوط كانت كبيرة، وتم تهويلها بشكل مبالغ فيه، حاول الفيفا تجاوز المشكلة من خلال تشكيل لجنة للنظر في التواريخ المناسبة لإسكات الأصوات المشككة في نجاح استضافة قطر كأس العالم، وتوصلت اللجنة التي رأسها رئيس الاتحاد الآسيوي لكرة القدم الشيخ سلمان بن إبراهيم آل خليفة إلى نتائج توافقية بعد النقاش مع مختلف الأطراف، حتى أصبح الموعد المقرر في الفترة الشتوية ما بين 21 نوفمبر و18 ديسمبر 2022 بدل أن يكون في الفترة الصيفية 21 يونيو و18 يوليو.

غير أن حملة التشكيك في أحقية استضافة قطر المونديال ظلت مستمرة، وكأنَّ ثمة أسباب غير مُعلنة لذلك، حتى أثار اتحاد النقابات الدولي بعدها قضية تشغيل العمال دون مراعاة قوانين حماية العمل الدولية، مطالبا الفيفا سحب قرار استضافة قطر بطولة كأس العالم، وإعادة التصويت الذي خسرت فيه الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وكوريا الجنوبية واليابان.

 

 

الزيارة الميدانية

أصبحت استضافة قطر كأس العالم مستهدفة بشكل واضح، ولا يبدو الأمر غريبا، فالمونديال يعد أكبر المشاريع التي ستخدم البلد المضيف والمنطقة الخليجية بعد أن خصصت الحكومة القطرية مبلغا هائلا يقدر بنحو 200 مليار دولار أميركي لإنجاز الأعمال الإنشائية وتطوير البنية التحتية؛ بهدف تحقيق الشروط والمعايير التي تضمن نجاح الاستضافة، ومن شأن هذا المشروع الضخم تحريك المياه الاقتصادية الراكدة في الأقليم برمته، وفتح آفاق جديدة على العالم، ولكن هل يمكن حصول ذلك دون عرقلة؟

حاولنا في "البلاد سبورت" التعمق أكثر في الموضوع، وساعدنا زملاء في قطر على زيارة منشآت مونديال 2022 في الدوحة؛ لنتعرف على حقيقة الأمور ميدانيا، وخلال الزيارة التي اختير لها كاتب السطور، قابلت الكثير من العمال هناك وتجولت في مساكنهم ونظرت إلى غرفهم، ولم أتردد في دخول حماماتهم واستخدامها أيضا.

لكنني من منطلق الحياد الصحافي، كنت أقنع نفسي أن ما أراه من رعاية متكاملة لعمال منشآت كأس العالم ربما تم التنسيق له مسبقا من قبل الجهات المسؤولة؛ لكي يظهر بهذه الطريقة الإيجابية، وقلت في داخلي أن الابتسامة المرتسمة على وجوه العمال الذين التقيتهم ربما تكون أوامر استثنائية!

اجتاحتني حالة من الريبة طوال خمسة أيام مكثتها في الدوحة وأنا أعيش في أمن وسلام أشاهد حجم الأعمال الإنشائية على جميع الطرق السريعة والأبنية المتسارعة في الصعود إلى السماء، إلا أنه لمع سؤال فضولي في رأسي من على تلة اصطناعية صغيرة في منطقة كتارا الساحرة: إذا كان هذا حجم المشاريع، فكم عدد العمال إذًا؟

 

 

كذبة أبريل

كان السؤال مُتأثرًا بمنظر المشاريع الإنشائية على امتداد البصر في الدوحة من على تلك التلة، ولكنني سرعان ما تذكرت تقرير منظمة العفو الدولية الذي اتهم قطر بالاستغلال الممنهج لحقوق العمال؛ بهدف تسريع وتيرة إنجاز مشاريع كأس العالم في العام 2022، فبدأت أبحث في تفاصيل الموضوع وأنا في الدوحة.

بعد تعمق في تقرير منظمة العفو الدولية الذي حمل عنوان "الجانب القبيح للرياضة الجميلة: استغلال العمال في قطر لكأس العالم". بدا لي أن المنظمة الدولية لو تأخرت يوماً واحداً قبل إصدار هذا التقرير لاعتبره الناس "كذبة أبريل"، لكنه صدر في تاريخ 31 مارس 2016، أي قبل يوم من شهر أبريل!

شاطرت رأي السلطات القطرية عندما وصفت التقرير بأنه "يرسم صورة مُضللة" مستندا إلى ما رأيته، وأعجبني رد اللجنة العليا للمشاريع والإرث، وهي الجهة المشرفة على تنظيم مونديال 2022 عندما رفضت أي فكرة توحي أن قطر غير مؤهلة لتنظيم المونديال، مؤكدة أن استضافة كأس العالم لم تبنَ على ظهور عمال مستغلين.

غير أنني سعيت لاستكشاف حقيقة ما يحدث للعمال في قطر، وأصبحت أتوق للتعرف على حجم العمالة حتى أستطيع تقدير الأمر، إذ يبدو أن العدد الهائل للعمالة ساعد في ظهور مشكلات ناشئة استغلتها المنظمات الغربية؛ لمهاجمة استضافة قطر بسبب وجود حالات شاذة نتيجة لربكة الطفرة الفجائية. لم أنكر التهمة عن قطر التي تحتل مرتبة متقدمة في مؤشر السلام العالمي، لكنني لم أنفِ فرضية أن القصص ربما تكون مهولة من جانب منظمة العفو الدولية وأخواتها.

 

 

1.7 مليون

وقعت عيني خلال بحثي على تصريح منشور في موقع "سكاي نيوز" لوزير في حكومة دكا يتوقع فيه أن يصل عدد العمال البنغاليين في قطر إلى مليون شخص بحلول العام 2018، فيما كشفت أرقام رسمية عن وجود ما يقارب المليون وسبعمئة ألف عامل في قطر من جنسيات مختلفة، أغلبها من دول آسيا مثل بنغلاديش ونيبال والفلبين، والهند التي يصل عدد أبنائها في قطر نصف مليون.

كان الرقم صادما بالنسبة لي، إذ يشكل نسبة كبيرة من إجمالي عدد سكان دولة قطر البالغ 2.5 مليون نسمة، وذلك فق الأرقام التي أعلن عنها مسؤول في وزارة التخطيط التنموي والإحصاء القطري.

وتبين الأرقام حجم الزيادة التي حدثت بسبب تطبيق قطر برنامجا استثماريا ضخما يعتمد على العمالة المكثفة، في سباقها مع الزمن لاستضافة كأس العالم، فضلا عن احتياجاتها لسد فراغات أفرزها التوسع في مجالات الغاز والنفط والبناء، وبسبب قلة عدد المواطنين، أصبح 94 في المئة من العاملين ليسوا من القطريين.

ومن خلال مراجعاتي للتطور الديموغرافي لدولة قطر، اتضح لي أن التزايد السكاني ظهر خلال العقد الماضي، ووفقا لإحصاءات البنك الدولي والأمم المتحدة، لم يكن عدد السكان في قطر يتجاوز 398 ألف شخص العام 1986.

 

المدينة العمالية

الأرقام المذكورة تخلق فرضية قابلة للنقاش، تتعلق بنسبة الحوادث والتجاوزات القانونية التي يمكن أن يتعرض لها العمال في قطر قياسا بأعدادهم الهائلة، ذلك أن منظمة العفو الدولية اتهمت قطر بـ "الاستغلال الممنهج" في تقريرها الذي استندت فيه إلى مقابلات أجريت حتى فبراير 2016 مع 234 عاملا.

وتفيد المقابلات بوجود تجاوزات في معيشة العمال في "أماكن قذرة وضيقة"، ومصادرة أرباب العمل جوازات سفر العمال، وتعرض العمال للتهديد لاعتراضهم على ظروف العمل، واضطرار العمال إلى دفع ما يصل إلى 4300 ألف دولار لمن وفر لهم الوظائف في بلادهم؛ لكي يتمكنوا من الحصول على وظيفة في قطر، بالإضافة إلى عدم حصولهم على رواتبهم منذ أشهر.

ومن خلال بحثي عن صحة هذه المعلومات لم يثبت لي شيء من هذا القبيل في النواحي المتعلقة باستضافة كأس العالم، إذ يبدو من الواضح جدا حرص اللجنة العليا للمشاريع والإرث على تطبيق المعايير الدولية المتعلقة بحقوق العمال من خلال توقيع العديد من الاتفاقات مع الجهات ذات الاختصاص، ورغم أني لم ألتقِ جميع العمال في قطر لأثبت ذلك، إلا أنني قمت بزيارة المعاقل الرئيسة لهم والمتمثلة بشكل أكبر في المدينة العمالية التي تستوعب 52 ألف عامل، وكانت هذه الزيارة كافية لتؤكد حجم المساعي المبذولة من جانب البلد المنظم لاحتواء العمال بصورة لائقة، لكن ذلك غاب عن منظمة العفو الدولية التي غاب كل شيء ما عدا الاستناد إلى مقابلات مع 234 عاملاً فقط لتعممها على مليون وسبعمئة ألف آخرين!

 

 

تدابير الحماية

ويبدو أن شهادات العمال الذي استندت عليها منظمة العفو الدولية تم استغلاله بشكل سيئ لحالات شاذة تُشكل نسبة قليلة جداً من المجموع الكلي للعمالـ فلا يمكن تعميم مصطلح "استغلال ممنهج" استنادا إلى نسبة مئوية ضئيلة من المجموع، ورغم ذلك قمت بزيارة وزارة التنمية الإدارية والعمل والشؤون الاجتماعية القطرية؛ لأتعرف على الأنظمة والقوانين الخاصة بالعمال الوافدين، ووجدت أن قانون العمل القطري الصادر العام 2004 ينص على تدابير الحماية القوية، فهو يفرض حداً أقصى لساعات العمل الأسبوعية، وينص على إجازة أسبوعية مدفوعة الأجر، ومكافأة نهاية الخدمة، وفيه أحكام خاصة بصحة وسلامة العمال.

كما يطالب القانون أصحاب العمل بدفع رواتب العمال في مواقيتها كل شهر، ويحظر على وسطاء الاستقدام للعمل المسجلين في قطر فرض رسوم على العمال. كما يحظر على أصحاب العمل مصادرة جوازات سفر العمال، ويضع متطلبات صارمة بشأن إقامة العمال وسكنهم، ويحظر العمل وسط النهار في أشهر الصيف الحارة.

وفضلا عن ذلك، تعد قطر عضوا في منظمة العمل الدولية منذ العام 1972، وصدقت على اتفاقات لحماية العمال من العمل القسري، ومن التمييز في العمل، وحظر عمل الأطفال. وفي العام 2009 صدقت الحكومة على بروتوكول الإتجار بالبشر الصادر عن الأمم المتحدة، وجميع هذه القوانين تقابلها عقوبات مشددة؛ لضمان تطبيقها.

 

 

شريف العلم

وضمن مساعيها لحماية العمال أصدرت قطر المزيد من القوانين، وآخرها كان "إلغاء كفيل العمل"، فيما تقوم الجهات المختصة بحملات تفتيش لضبط المخالفين، وفي حالات موثقة لدى الدولة تم إغلاق أكثر من 60 موقع عمل خالف قرار العمل. وأما الأجور، فقد التزمت 95 % من المؤسسات بدفعها عبر البنوك، وحصل نظام حماية الأجور المستحدث على إشادة واسعة بعد تطبيقه في العام 2015.

ومن خلال النظر إلى المشهد من زاوية محايدة تتبين المُتاجرة بقضايا العُمال من جانب بعض المنظمات وتهويلها بطريقة فجة؛ للاستفادة منها في أغراض أخرى، ويتجسد ذلك بوضوح في القضية الأخيرة التي أثارتها أكبر نقابة للعمال في هولندا، حيث هددت بمقاضاة الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) لفشله -حسب وصفها- في وقف انتهاكات حقوق العمال في المنشآت الرياضية التي تبنيها قطر.

والغريب في القضية أن نديم شريف العلم البنغالي الجنسية الذي رفعت الشكوى لصالحه، لا يعمل أصلا في منشآت كأس العالم، وإنما يقوم بتفريغ سفن تحمل مواد بناء حسب اعترافاته، ورغم ذلك يصر اتحاد نقابات العمال الهولندية "إف أن بي" بتعويضات من الفيفا بقيمة 10 آلاف يورو لنديم شريف العلم الذي قالت إنه ينتمي إلى فرعها الدولي، في مفارقة مثيرة للريبة، حيث إنه الشخص الوحيد الذي التحق بالمنظمة من بين العمال البنغاليين الذين سيصبح عددهم مليونا قريبا في قطر!

ورغم أن بطل الرواية نديم شريف العلم قال إنه فصل من العمل، وتم ترحيله قبل أن يكسب قيمة رسوم عقد العمل الذي دفعه لشركة توظيف في بلاده، حاولت النقابة الهولندية الزج باسم قطر في شأن لا علاقة لها فيه بطريقة تحمل الكثير من العنصرية ترتسم بشكل واضح في تصريحات ليزبيث زجفيلد المحامية لدى اتحاد نقابات العمال الهولندية التي تعرضت لمسألة تخص الشريعة والإسلام في البلد الخليجي الذي قالت إنه سيبيح بيع الخمور فقط لاستضافة المونديال!

 

 

خلاصة البحث

وتبقى قصة نديم شريف العلم حلقة في مسلسل القصص الخيالية التي تظهر بين الحين والآخر، ويتم ربطها بشكل أو بآخر بعمال مُنشآت كأس العالم، لكنها تكشف بوضوح أن المسألة لا تخلو من سوء النية يدعو لتهويل الأمور بطريقة أكبر من حجمها الطبيعي؛ لاعتراض طريق قطر التي تعمل على إحداث نقلة نوعية في الثقافة الرياضية والكروية في المنطقة.

والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني بعد بحثي عن تفاصيل هذا الموضوع هو، لماذا لا يتم النظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس في كل خطوة إنسانية وتنموية تقوم بها قطر في إطار استعداداتها لاستضافة مونديال 2022؟

هل تساءل أحد على سبيل المثال، كم عائلة في بنغلاديش وغيرها من البلدان استقدم أبناؤها للعمل في قطر؛ ليكون معيلاً يستفيد من ميزانية تبلغ 200 مليار دولار خُصصت لهذا المشروع الحضاري في منطقة الشرق الأوسط التي تغرق في حروب مُدمرة تكلف مبالغ مالية باهظة لدفع فاتورة حصد أرواح الأبرياء وتهجيرهم من منازلهم، لابد وأن مئات الآلاف من العوائل كانت مستفيدة، ويبقى السؤال الأهم أي المشاريع التي يتوجب محاربتها من جانب الصحافة العالمية والمنظمات الدولية الغربية: مشاريع تدمير الأوطان العربية أو إعمارها؟!