العدد 3071
الأحد 12 مارس 2017
banner
“عم عزمي” والتشكيل
الأحد 12 مارس 2017

الطفولة هي أولى مراحل تكوين شخصية الإنسان وربما أهمها، حيث ترسخ ذكريات تلك المرحلة في العقل والوجدان لتلازمنا طوال رحلة العمر.

في الحي الشعبي الذي نشأت فيه، كان هناك بقال (صاحب برادة) كنا نناديه “عم عزمي”. كان رجلا نزيها بكل ما تحمل الكلمة من معان، ورغم أنه عاش ومات بعيدا عن وطنه الأصلي (فلسطين)، إلا أن أهالي الحي جميعهم كانوا يشعرون أنه أخ لهم ووالد لأبنائهم.

بسبب أمانته ونزاهته كان متجره الصغير مكتظا باستمرار بالزبائن حتى من خارج الحي، حيث كان، رحمة الله عليه، يحرص على جلب أجود أنواع البضائع ويبيعها بأفضل الأسعار. أتذكر أنه كان لديه صندوق خشبي مثبت على طاولة بداخله مصباح وبأعلاه فتحة دائرية صغيرة، فلا يبيع بيضة واحدة قبل أن يضعها فوق الفتحة ويضيء المصباح ليتأكد من أنها ليست فاسدة، وفيما كان الأمر مسليا بالنسبة لنا كأطفال إلا أنه يأخذه على محمل الجد.

كانت الأمهات يرسلن أطفالهن إلى متجره حاملين قصاصات مكتوب فيها قائمة المشتريات، فيعطونها له مع المال ليسلمهم الأغراض مع الباقي. ذات مرة قال لي “يجب أن تكتب القائمة بنفسك”، ورغم صغر سني وعدم بلوغي مرحلة التعليم الابتدائي اجتهدت لأنفذ ما طلب مني، وكان يصحح أخطائي الإملائية.

بعد فترة من الوقت أردت أن استعرض مهاراتي في اللغة العربية فكتبت القائمة بتشكيل الكلمات، وعندما قدمتها إليه قال بنبرة حازمة “لولا أنك لا تعلم لاعتبرتها إهانة”، وعندما رآني أحدِّق وبدت على وجهي علامات الجهل، قال “يا بني من يحسن القراءة ويعمل العقل لا يحتاج إلى التشكيل، ولا حتى النقاط”.

ذلك الرجل البسيط كان يحثنا على القراءة والاجتهاد في طلب العلم والمعرفة، وقد استطاع أن يؤثر إيجابا في تشكيل شخصية أجيال من أبناء الحي، وأنا واحد منهم. والعامل المشترك بين تلك الأجيال هو أنها نشأت قبل الإنترنت وغوغل، لذلك كان عم عزمي بثقافته الواسعة مصدرا مهما للمعلومات متاحا على ناصية حارتنا. 

في الآونة الأخير خضت وزملائي حوارا مهنيا عن استخدام التشكيل في الكتابة، وبدا أن هناك شبه إجماع على استخدام التشكيل فقط في الحالات التي تحتمل لبسا، وفي النقاش استشهدت بما قاله لي عم عزمي قبل نحو 40 عاما. 

لطالما شعرت بأنني مدين لذلك الرجل النبيل الذي تعلمت منه الكثير، وإكراما وتقديرا له قررت ألا أستخدم التشكيل في كتاباتي ومراسلاتي من الآن فصاعدا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .