العدد 3077
السبت 18 مارس 2017
banner
خدمة البرقيات 
السبت 18 مارس 2017

يتجاوز الستين ببضعة أعوام، لكنه يبدو أصغر بعشر سنوات، مستعيناً ببعض الحيل البسيطة: أناقة الرداء، الثوب البحريني النظيف المرتب، الغترة ناصعة البياض، انشراح وجهه بابتسامة واسعة تضيِّق عيناه، من القلب. معتدل الطول، في حد متر وثلاثة أرباع المتر. شاربه على الموضة البحرينية القديمة: كبير طويل الشعيرات ومصبوغ بالأسود، بشرته أفتح قليلاً من القهوة السادة التي يقول البعض إنها هي الشعبية، بدون هيل ولا زعفران، ربما القليل مما لا يمكنني تمييزه.

ورغم المميزات والنعم التي أسبغها الله عليه إلا أنك لا تشعر بالانجذاب لحديث طويل معه، ربما بسبب بساطته وتواضعه، قد يكون في أعلى درجات الأدب والذوق و”الذرابة”، لكنكما لن تتناقشا في المسرح أو السينما أو التكنولوجيا أو الأزمة الاقتصادية.

رأيته للمرة الأولى (والوحيدة) حين دخل إلى مكتبي في مجلس المحرق البلدي حيث أعمل بمهنة أخصائي إعلام، ألقى التحية ببشاشة فرددت بمثلها، وألقى تحية ثانية على زميلي المصور خالد بوعلاي، ثم ثالثة على زميلتي أخصائية العلاقات العامة نورة يوسف، وبدأ الحديث إليها بعد أن دعوناه إلى التفضل بالجلوس. نظرت إلى شاشة الكمبيوتر لأكمل مهامي.

كنتُ مستمعاً إلى الحديث الذي يدور على بعد أمتار قليلة، رأيته يُخرج عدداً من أظرف البرقيات محكمة الإغلاق، عليها شعار شركة البحرين للاتصالات “بتلكو”، ومن غير التشدد في اهتمامي، أعملتُ الفضول الصحافي، تساءلتُ في قلبي: من هو؟ مراسل للشركة؟ وكوني لم أصادف ممارسي هذا العمل من بتلكو فلا أدري هل هو تابع للشركة؟ هل يجوز أنه مراسل بلا لبس رسمي أو إشارة بارزة تدل على وظيفته؟ 

كان هذا النقاش بينه وبين أخصائية العلاقات العامة: “يبت برقيتين يا بنتي ما عليج أمر، وحدة حق بيت (...) والثانية حق بيت (...)   الله يرحم موتاهم ويغمد روحهم الجنة.

- إن شالله بنوصلهم.

-        يزاج الله خير ما قصرتي.

حاولتُ أن أحلل الموقف مختبِراً ذكائي: هل توظف الشركة مراسلين متجاوزين سن التقاعد؟ قد تكون بادرة وطنية لاحتضان المتقاعدين وتشجيع البحرينيين على العمل؟ لكن على أية حال ما علاقة المجلس البلدي بإيصال برقيات التعازي! ولماذا لم تذهب البرقيات إلى العائلات مباشرة، ولماذا يقوم المجلس بإيصالها إليهم؟ ما هو تفسير هذا الحدث الغريب الذي يحصل أمامي؟ أعلنت استسلامي منتظراً الفرصة المناسبة لأسأل عن ماهية الوضع.

استأذن بالرحيل بعد أن احتسى فنجانا من القهوة السادة، التي تبين لي لاحقاً أن صبَّها مهنته، وأنه يستلم طوعا البرقيات التي قد تصل في حالات نادرة إلى صالة المناسبات متأخرة عن أيام العزاء الثلاثة، فيوصلها إلى أصحابها بمساعدة من المجلس البلدي، متقمصاً دور مراسل بتلكو بلا استئذان ولا راتب، ولا مكافأة.

هو ليس “صباب قهوة”... إنه ملاك حب وسلام.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية