العدد 3152
الخميس 01 يونيو 2017
banner
يا عزيزي... كلنا طوابير
الخميس 01 يونيو 2017

عندما كانت إسبانيا تمور بالأحداث التي أسميت بالحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، كانت القوة الزاحفة إلى مدريد مؤلفة من أربعة طوابير، ولكن ما إن أحسّ الجنرال كويبو كيللانو بأن خططهم تتسرب إلى عدوهم، وهناك من يعمل ضدهم من داخل المؤسسة نفسها، وأن ما يخططون له ليلاً يجدون أعداءهم مستعدين له صباحاً، قال مقولته المشهورة: “هناك طابور خامس يعمل مع الثوار”، ومنذ ذلك الحين، و”الطابور الخامس” مصطلح يطلق على الجواسيس.

ومع مرور السنوات ظهرت أيضاً محاولات لترويج مصطلحات جديدة كـ “الطابور السادس”، وقيل إنه إذا كان الطابور الخامس من الجواسيس المدرّبين، وذوي المهمات السرية التي قد تكلفهم حياتهم، والذين يعرفون ما يفعلون تماماً، وذلك بنقل الخطط والاستراتيجيات ومواقع القوة ونقاط الضعف وغيرها إلى الطرف الذي يعملون لصالحه؛ فإن “الطابور السادس” هو مجموعة من الأفراد الذين يعملون على ضرب الثوابت الوطنية، والتشكيك في البرامج الرسمية، وإشاعة الخوَر والوهن بين الناس، وتثبيط الهمم، وإضعاف الروح الوطنية، وهؤلاء ليسوا والجواسيس سواء، فهم يعملون في العلن ووضح النهار، ولكنهم يتخذون أغطية مختلفة تحت مسمّيات برّاقة أحياناً.

ولو أردنا تقسيم الأوطان إلى مجموعة طوابير لوجدناها كثيرة، فطابور السُرّاق، العلنيين والخفيين، الصغار الذين يطلبون “دهان سير” بعشرات الدنانير، وصولاً إلى الحيتان التي لا تستثني شيئاً من الابتلاع، فإنهم يُعتبرون من أخطر الطوابير التي تعمل على نهش الأوطان، وسرقة مقدراتها، وإشاعة الفساد فيها، وإفساد الآخرين إن استطاعوا ليوسّعوا دائرة الساقطين معهم في ما هم فيه منشغلون، وتبدأ حينها سلسلة من القذارات المالية التي لا تستقيم الأمور إلا باستمرار اعوجاجها، فتصبح الرشوة “سلك البلد”، والسرقة أمر طبيعي، كريه ولكنه واقعي.

طابور السلبيين الذين لا يحرّكون ساكناً تجاه الأحداث التي تجري في محيطهم، لا يطعنون ولا يصدّون الطعنات، عاجزون تحت عباءة التعالي عن الانخراط في الأحداث، وهؤلاء الذين نسمّيهم تدليلاً “الفئة الصامتة” أو “الأغلبية الصامتة”، وصمتهم هذا غير المبرر لا يشي إلا بعدم وجود من يهبّ من أوساطهم ليتصدّى للقيادة، هذا الصمت يفوّت الكثير من الفرص، ويضيع الكثير من الحقوق، لا مسوِّغ للحديث نيابة عنه مادام لم يطلب حق الحديث.

طابور المتناقضات، المؤيِّد بشدة، والمعارض بشدة، كلاهما يبلبلان الوعي العام ويزوّرانه، ويحاولان ركن التفكير الواضح والواعي على جهة، بل يودّان لو يعلنان وفاته إلى الأبد، لأن التفكير الحر لا يقبل هذه الانتماءات الغالقة لجميع النوافذ، والتي لا ترى إلا نفسها، ولا تقبل لا لوماً ولا عذلاً ولا مراجعة ولا تقييماً ولا تراجعاً. طابور مستعد للحلف كذباً وزوراً لئلا يقول إنه أخطأ في لحظة تاريخية ما. 

المجتمعات ليست إلا طوابير، ليست كلها سلبية كما تقدّم، وإنما الأمم الحيّة تلك التي تحاصر طوابيرها الناخرة في صلب مجتمعاتها، عن طريق إشاعة العدل وإعلاء شأن أفراد الطوابير الخضراء، لا أن يكون الكذب والسرقة والتدليس والتطبيل ومسح الجوخ، سلالم ارتقائهم الشخصي، وهي نفسها سلالم نزول الأوطان إلى القيعان.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .