العدد 3242
الأربعاء 30 أغسطس 2017
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
مستقبل التعاون الخليجي
الأربعاء 30 أغسطس 2017

تعتبر منظومة دول مجلس التعاون إحدى المنظومات الإقليمية التي نشأت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهي بخلاف مثيلاتها التي برزت في ذات الفترة استمرت رغم ما مرت به من مشكلات. ومن المهم القول إن المنظومة الخليجية قد مرت بمجموعة من المشكلات والمآزق بعضها كان ثنائيا كالخلافات الحدودية، وبعضها الآخر كان ذا علاقة بموقع هذه الدول في مؤسسات المجلس أو المدى الذي يمكن أن تذهب إليه صيغة التعاون الخليجي. وهي في كل حالاته قد استطاعت أن تحل هذه الخلافات بشكل ودي وذلك بأن يتنازل طرف للآخر أو أن يأخذ المشكل إلى إحدى المنظمات الدولية المعنية أو أن يؤجل الحل كما هو في أغلب حالاته. أما الشكل الآخر من هذه المشكلات فقد كان جماعيا. بمعنى أن يشكل فيها المشكل تهديدا وجوديا لهذه المنطقة والتي تمثلت في حدثين اثنين: هما ما مثلته الثورة الإيرانية من تهديد جدي لأمن المنطقة في مطلع الثمانينات وفي الغزو العراقي للكويت. وفي كلتا الحالتين استطاعت دول المنطقة أن تتجاوز المشكل بمزيد من التقارب والتعاون الداخلي بين دولة أو/ وبالاستعانة بدعم خارجي قد جاء في كل حالاته من أميركا والدول الغربية وان اشتركت فيه بعض الدول العربية فعليا أو شكليا وتحديدا مصر والأردن.

واختلفت دول مجلس التعاون فيما يتعلق بإجراءاتها التعاونية أو الاندماجية كل وفق رؤاه أو مصالحه القطرية، وان هذا الاختلاف وإن جر معه بعض “المشاحنات”، إلا انها كانت على الدوام مصاحبات وقتية لم تأزم العلاقة كثيرا بين دوله كما انه لم يُطلب بتأييدها مجتمعيا. بمعنى أنها اختلافات في الرؤى والسياسات بقت على الدوام في مستوى الساسة أو مؤسساتهم ولم ينزل بها للمجتمع، إذ حرصت هذه الدول على إبقاء شعوبها بعيدا عن خلافاتها السياسية، وهو الأمر الذي لم يتم تفادي أمره في الأزمة الخليجية القائمة. بل ان حجم التوظيف لوسائل الاعلام التقليدية ووسائط الاتصال الاجتماعي المختلفة وطبيعة اللغة الموظفة قد فاق المتوقع، بل قد نزل بها البعض لما دون المستوى المهني. وهو في حد ذاته متغير بات يؤثر كثيرا في توجهات الناس وقيمهم وبات يشكل اتجاهات بعضا من شعوب المنطقة نحو بعضها البعض وهي اتجاهات أقل ما يمكن أن يطلق عليها بأنها اتجاهات سلبية وغير مريحة وهي اتجاهات ستبقى عند البعض كثيرا ولربما يمكن أن نقول إنها قد أحدثت انقساما بين شعوب المنطقة لا يمكن تجاوزه بذات الاداة والطرق التي صنعته. وإذا ما كانت كل التهديدات التي جاءت على المجلس من خارجه، فإن الخلاف القائم بين قطر وثلاث من دوله: المملكة العربية السعودية والبحرين ودولة الامارات العربية المتحدة. هو نزاع داخلي بات يؤثر على منظومة التعاون القائم بين دوله من ناحية وتضرر الأفراد والاعمال بفعل ما يحدث من ناحية أخرى في طرفي النزاع. بمعنى آخر فإن النزاعات الداخلية غالبا ما تكون تهديداتها لأي منظومة إقليمية أشد وأقصى. وهي حالة من النزاع ستأتي بآثارها على زخم العمل المشترك وفاعليته.

وأثير في الفترة الأخيرة تواري دور مجلس التعاون الخليجي في الأزمة الخليجية الأخيرة، وما نود الإشارة إليه أن المجلس لم يكن ذا دور فاعل في كل الخلافات الخليجية- الخليجية وان دوره ونتيجة لطبيعة الفهم الرسمي، ولربما القيود غير المكتوبة المفروضة عليه. فقد بقى تنسيقيا في حدود المسموح له والمتاح من الدول المشكلة له رغم ما تنص عليه أنظمته والمنظمات المنبثقة عنه. وأن خلافات الدول الخليجية مع بعضها البعض يتوارى فيها المجلس كمنظومة إقليمية ويبرز دور دول من المنطقة أو خارجها. فبعض خلافات الدول الخليجية مع بعضها البعض قد تم حله أو تهدئته بمساعي شخصية من بعض رؤساء دول المنطقة أو بأطراف عربية غالبا ما تكون مصر أو المغرب. وهي حالة تختلف عن كل المنظومات الإقليمية الأخرى في العالم سواء أكان ذلك في شرق آسيا او افريقيا أو أميركا اللاتينية. ولن نأت على دور مؤسسة الاتحاد الأوربي لأنه يبقى كمنظومة متقدمة عن كل المنظمات التعاونية الأخرى في العالم كما وأن صلاحياته ومهامه تتجاوز في كثير من الأحايين سلطة الدولة العضو، بل إن قرارات المؤسسات المنبثقة عنه ملزمة للدول وإن لم ترغب في ذلك. بل يمكن القول كذلك ان الاتحاد الافريقي كان قادرا في كثير من حالات الصراع بين دوله أن يحلها أو أن يوقف تفاقمها. ويبقى الأمر مع ذلك نسبيا ذا علاقة أولا بغلبة النزعة القُطرية والذاتية على حالة التعاون من ناحية، وإلى درجة الايمان بهذا التعاون وقدرة المؤسسات القُطرية على دعم هذا التوجه الوحدوي على النزعة القطرية. وفي الواقع فإن الحالة التعاونية في الخليج لم تتشكل بعد بشكل مؤسساتي في ممارسات الدول أو فيما بينها. فالنزعة القطرية بقيت مُغلبة على أي شكل من أشكال التعاون الذي يتطلب في كل حالاته الناجحة تطور مؤسساتي على مستوى الداخل وتنازل طوعي عن السيادة القطرية لصالح العمل المشترك، وهو أمر لم تدركه المنطقة في جلها. او أن وعينا السياسي وواقع تطورنا المؤسساتي لم يدركه بعد.

لقد دخلت الأزمة حتى الآن شهرها الرابع، كانت في أيامها وأسابيعها الأولى متسارعة الخطى ومليئة بمفاجئات الفعل وردة الفعل، إلا انها ومنذ اجتماعات القاهرة قبل أكثر من شهر من الآن قد بقت عند المستوى الأول الذي وصلت إليه، كما خُففت الدول والقوى الإقليمية والأطراف والهيئات الدولية مساعيها للتقريب بين وجهات نظر أو في البحث عن مداخل جديدة للحل. فكل المحاولات التي جرت لم تات على قبول الأطراف المعنية كما انها لم تخرج بصيغ وسطية. فالوسطية التي طالما عرفت بها المنطقة لم تسعف أصحابها على ايجاد صيغة مقبولة للحل. فأما القبول بالأمر المطروح أو العودة إلى تاريخ ما قبل بداية الأزمة وهو أمر لم يلاقي القبول للأطراف كلها.

فالدول لا تقوم بإجراءات أو تتبنى سياسات لتبقى حبيسة لها على المدى المتوسط كما البعيد، خصوصا عندما تأتي هذه الاجراءات بمصاحبات اقتصادية وسياسية واجتماعية مؤلمة. كما ان الكثير من النزاعات قد تبدو نظريا قابلة للكسب، على أن ارتداداتها على الواقع قد تبدو في بعض التجارب كبيرة وإن جاءت بعد حين، ولنا في تجربة الحرب العراقية الإيرانية مثالا. من الناحية الأخرى فإن حجم التكلفة الاقتصادية للأزمة على أطرافها المختلفة ومن التقارير الدولية يبدو كبيرا، كما أن تكلفته السياسية هي الأخرى كبيرة. فالكثير من إجراءات الفعل السياسي تحمل معها فسحة التراجع أو التنازل. فالاطراف المتصارعة عادة ما تترك لخصومها فسحة ومساحة تجعل منه قادرا على القبول بالحل من ناحية واقناع مجتمعه في الداخل على أن ما قام به يحمل له بعض المكاسب من الناحية الأخرى. اي الخروج من أي صراع لا بد أن يقوم على مبدأ التنازل المتبادل وبالتالي المكاسب المشتركة. من هنا يذهب جيمس دورسي الزميل الباحث في معهد راجران للدراسات الدولية بسنغافورة من أن الخلاف الخليجي لم يعطنا درسا مهما في حل النزاعات بل انه لم يقدم لنا نحن الباحثين في الشأن الخليجي نموذجا قابل للمقارنة مع نماذج حل الصراعات والنزعات على مستوى العالم.

ويبقى السؤال المطروح فيما إذا كانت المنطقة قادرة على تجاوز مصاحبات وتبعات الأزمة، على مستوى الدول كما هو على مستوى الأفراد. وكلما امتدت الأزمة في الزمن كلما عجز الزمن عن مداوات آثارها. وهي آثار تبدأ بحقيقة أن الأزمة بين اشقاء البيت الواحد قد أحدثت صدعا في الثقة بين كل أطرافها، بل إن ذلك يمكن أن يشمل اولئك الذين لم يكونوا طرفا فيها. بمعنى آخر أن الأزمة قد أصابت بخلل درجة الثقة في العمل المشترك وفي قدرة المنظومة على حل مشكلاتها. فالكثير من العمل السياسي الثنائي أو المشترك يقوم على درجة معينة من الثقة وإن ضعفت. من هنا فإن المنظومة الاقليمية هي الآخر قد اصابها قدرا من العطب في عملها وبرامجها. وهي في هذا قد تحتاج لقدر أكبر من الوقت والجهد لتجاوزه، هذا إذا لم ينتهي مصيرها بمصير الكثير من العمل المشترك في المنطقة العربية.و أنها كمنظومة قد تحتاج لقدر أكبر من الجهد لإقناع شعوب المنطقة بجدواها.

من هنا فان مستقبل المنطقة قد يحتاج لعمل إقليمي جديد،تتجاوز به المنطقة الصيغ القائمة. عملا تشترك فيه كل أطرافه تتجاوز من خلاله كبوات مراحله السابقة التي لم تزد الأزمة الأخيرة إلا كبوة اخرى. بل إنها أزمة تضع دول المنطقة أمام مفترق طرق. اي أنها أما ان تستمر بوضعها الحالي الممزق تتنازعه عصبيات محلية وأخرى إقليمية وأخرى خارجية. أو أن تبحث عن أشكال جديدة من العمل المؤسساتي المشترك يبني على تأريخ ما قبل الأزمة وليس على ما بعدها. واذا كان تجاوز الما بعد بالنسبة لكل أو بعض الأطراف بدا مستحيلا، فإن مصاحبات الأزمة وآثارها ستبقى ملازمة لمجتمعاتنا وأفرادها يوم تم إنزالها للناس في مرحلة بات تأثير الوسائط التكنولوجية الحديثة على الناس كبيرا وعميقا وبات تجاوز آثاره من نفوس الناس هو الآخر معضلا في كيف ومتى يتم ذلك.

كلمة أخيرة نسجلها وهي أن جل دول الخليج العربي، إن هي إلا دول صغيرة: محدودة الجغرافيا والديمغرافيا كما هي محدودة من حيث مصادر القوة الأخرى التي من خلالها تتجاوز الدولة حدودها الجغرافية. وإن ما حباها الله من ثروة النفط واستقرار قد أكسباها قوة ونفوذا، إلا انها قوة وبفعل محدودية المصادر الأخرى للقوة تبقى ناقصة خصوصا إذا ما تجاوز توظيفها العقل والمنطق قد يكون لها ارتدادات فوق طاقة الدول الصغيرة على التحمل، ولنا في تجربة الكويت السابقة نموذجا ومثالا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية