العدد 3272
الجمعة 29 سبتمبر 2017
banner
الرجل الذي تعلمتُ منه الكثير
الجمعة 29 سبتمبر 2017

قبل يومين، أو يزيد، انتابتني حالة فراغ استثنائية، دفعتني قسرا لأن أسترجع بذاكرتي الواهنة، تلك الليلة المشؤومة من العام 2003، حين أبلغني أحد إخوتي بوفاة والدتي رحمها الله، وأي خبر هذا؟ وأي وجع؟

استرجعت هذه الومضة المؤلمة، وأنا أتذكر والدي وصديقي الراحل محمد بن حويل، والذي وافته المنية قبل أشهر في إحدى المستشفيات البريطانية، بعد مسيرة حافلة لهذه الهامة الباسقة، في المرجلة، والطيب والكرم ودماثة الخلق، ونشر الحب والسعادة لكل من حوله، كان محمد رحمه الله مدرسة في الحياة، مفاهيمها غير موجودة لا بالكتب، ولا المقالات ولا الجامعات.

ولأنه شخصية استثنائية، ولا تنسى، ولأنه شخصية لا يمكن أن تمر بشكل عابر في الذاكرة، كانت ردود الفعل لرحيله مدوية، وصاخبة، وغير عادية على الإطلاق، كانت مربكة ومتعبة، ومستمرة وللجميع.

ومن أعماق هذا الصخب، تعالت القصائد والمرثيات والدعاوى المختنقة بالعبارات، والمشاعر المطحونة، وكيف لا يكون ذلك، والمسجى في اللحد هو محمد، وكيف تقوى القلوب والأبصار على التطلع للوجه الأغلى، وهو خالٍ من الروح والحياة والابتسامة التي عهدناها.

قال أحدهم في اتصال هاتفي تلقاه أحد أشقاء الراحل، كلمة لا تزال محفورة بذاكرتي، وتأبى أن تغادرها “أنا أشهد أن الثوب اللي مات محمد وهو لابسه، ثوب لابسه رجال”.

استشهدت في ذاكرتي أيضا، بلحظة صفاء ذهني، نصائح مبعثرة لأخي الراحل محمد بن حويل -أو بو علي كما يحب أن نناديه- والذي كان يقول لي مرارا وتكرارا: مهما ضغطت عليك الظروف، وقست، وكبست، لا تتراجع خطوة واحدة عن مبادئك، وعن قناعاتك. نحن أصحاب مبادئ يا بو خالد، وأصحاب المبادئ لا يتنازلون عن مبادئهم أبدا.

وفي ذات مرة، قال لي بحزم، كل الأبواب المفتوحة على حياتك، والتي تتدفق منها التيارات العاصفة، أغلقها، مهما كانت الكلفة؛ لأنها ستعوقك، وستؤخر تقدمك، والحياة قصيرة، وليس لدينا الكثير من الوقت لنضيعه، أقفل كل الأبواب، واحرص ألا تخسر أحدا قدر الأمكان، مهما كان رديئا، وسيئا، ومسيئا؛ لأن الناس تتغير، والأحوال كذلك، فكن أنت المغتنم دائما، والمثل الذي يحتذى به.

وفي مرة أخرى، وهو يقود سيارته ذات ظهيرة حارة، وأنا معه، اشترى ما يقارب 20 قارورة مياه باردة، وبدأ يوزعها على عمال النظافة، والحفريات، المتناثرين بهذا الشارع وذاك، وهو يقول مبتسما: عليك بسقيا الماء يا بو خالد. الخير كله في سقيا الماء.

موقف آخر، وأثناء زيارتي لندن العام 2015 سلمني بو علي هاتف آيفون جديد، وطلب مني توصيله لشاب عربي يعمل بمدينة الضباب، التقيت الشاب وسلمته إياه، بعد رجوعي للبحرين استفسرت منه الأمر، فقال لي ببساطة إن هذا الشاب يعمل جرسونا بأحد المطاعم بـ “أجور رود”، وفي أثناء حديثه لاحظ بو علي أن شاشة هاتفه مكسورة، فأخذ منه رقم هاتفه، دون أن يذكر له السبب، وكان ما حدث.

وكان بو علي رجلا منظما للغاية، ويدون كل شيء أولا بأول بجهاز الآيباد الخاص به، المواعيد، برامج السفرات، احتياجاته الشخصية يومياته ..إلخ، وكان ينتقدني بشدة على عدم تدوين كل شيء، ويقول لي: اكتب كل شيء؛ لتراجع أولوياتك وتتذكرها، وتعمل لإنجازها، لا تعتمد على الذاكرة، أنت صحفي، ويجب أن تكون منظما.

والراحل الكبير بو علي، ولمن يعرفه حق المعرفة، لا يمكن أن يختزل في موقف أو اثنين أو مئة أو مئتين؛ لأنه مدرسة متكاملة في الحياة، وبالنضج، وبالصبر من حوله، وتحملهم، مهما كانوا سيئين، كما أنه مدرسة كاملة في الاهتمام، والسؤال عن الآخرين، والإلحاح في ذلك، كان رحمه الله يهتم في وقت ندر به من هو كذلك.

ولذلك كله، وحين ترجل محمد بن حويل عن الحياة، ورحل، ترك فراغا واسعا لدى الجميع، رغما عنهم، وعن إراداتهم، فراغ رجل كان ديدينه الاهتمام والسؤال وتقديم المشورة والنصح، والعتب الجميل، وأي عتب يطلق على عتبك يا بو علي؟

حين ترجل محمد بن حويل عن الحياة التي كنا نحبها؛ لأنه فيها، تغيرت ملامح الشخصيات المحيطة به رغما عنها، وتغيرت نظرتها للحياة، وللاهتمامات، وللأولويات، ولكل الأمور الأخرى، ولأن رحيله كان أقوى من أن يحتمل، كان رحيلا باكرا، لشخص كان يملأ بحبه حياة كل من يعرفه، ويقترب منه.

وأختم المقال بعبارة مؤثرة لأحد أبناء المرحوم، قال فيها “يا وجد عمري على أيامن مضت * ليتها تعود لو كان بالمشترى”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية