+A
A-

أمين صالح.. الكتابة بالنسبة لي نافذة تطل على الروح ..مرآة للنفس تعكس الأعماق

أمين صالح...يهزنا بأروع الكلمات..يفجر روح الحياة فينا كقراء ويدوي صوته في أعماقنا كلما عبرنا مدنه وابتلعنا سنابل مشاتله.." فتنة النص"...كان هذا هو عنوان الندوة التي أقيمت بأسرة الأدباء والكتاب يوم أمس وحضرها جمع من المهتمين وأدارها حسن بوحسن. حيث ألقى أمين صالح الضوء الساطع على تجربته في الكتابة وتناول الصور الحياتية العديدة المتناثرة في هذا العالم ...عالم النص..وفيلما يلي أبرز ما جاء في الندوة :

بعد عقود من الكتابة وتراكم التجربة والتنقل بين أشكال كتابية متنوعة ومتباينة، لا تعود تلك الملامح الأولى ساطعة كما كانت، صافية كما كانت، بل صار يكتنفها سديم اللا يقين والالتباس والخلط الذي يربك الصورة العامة. الذاكرة نفسها لم تعد تسعف، وكأنها تتكئ على وقائع مشكوك في صلابتها ومصداقيتها. لذا سأحاول أن ارتب عناصر الصورة كما أراها الآن، وليس كما كانت في الأصل.

بدأ ولعي بقراءة القصص والروايات وأنا في المرحلة الثانوية ، هذه القراءة النهمة حرضتني في أواخر الستينات على أن أجرب كتابة القصة، لكن بسذاجة المبتدئ. ليس فقط هذا الولع من وجهني إلى كتابة القصة القصيرة ، هناك أيضا تـأثري العميق بالحكايات التي جدتي ترويها لنا ونحن صغار، كانت تسرد الحكاية بطريقة فيها الكثير من التشويق والدراما، كانت مذهلة في السرد .من خلالها أحببت السرد.

أحببت الشعر كثيرا، أكثر من القصة والرواية، لكنني لم أجرب القصيدة. لم اشعر بأني قادر أو مؤهل لفعل ذلك. أردت أن أكون شاعرا في مجالي الخاص.

ويضيف أمين صالح....كنا جميعا آنذاك نظن ان الكتابة قادرة في لمحة على اجتراح المعجزة المرتقبة. كنا في الحقيقة نحلم، وكان حلما جميلا ونبيلا وطفوليا . لكننا خذلنا هذا الحلم، واتضح انه محض وهم. يود المرء أن يعطي لنفسه ولما يفعله ، شيئا من الأهمية ، من القيمة، من الامتياز، أن يعتبر  نفسه خارقا وذا حضور طاغ لكن هذا يعد خداعا للنفس قبل أن يكون تضليلا للآخرين. يجب ان نقبل بدورنا المتواضع ، الضئيل، وبوجودنا الهش في هذا العالم ، ولا نعطي أنفسنا حجما زائفا . الزعم بأن الكتابة قادرة على أجتراح تغيير ما ، حتى لو كان بسيطا هو محض وهم.

الكتابة وكل الأشكال الفنية لا تقدر أن تغير الواقع، قد تقول للإنسان شيئا عن واقعه، عن معنى ذاته ووجوده، أن تعمق وعيه، وأن تصقل حسه الجمالي ، وإذا استطعت ان تحقق بالكتابة بعضا من هذا تكون قد أنجزت شيئا له قيمة وأهمية.

أي نص هو بالضرورة انعكاس لذات الكاتب ورؤاه وتجاربه الشخصية ومعرفته الثقافية وأحلامه وذكرياته وتخيلاته. الكتابة بالنسبة لي ليست قناعا أو نتاج مخيلة محضة بل هي نافذة تطل على الروح ..مرآة للنفس تعكس الدواخل والأعماق . الذات ، او شظايا من السيرة الذاتية موجودة في النص ، لكنها قد تنتحل أشكالا أو شخوصا أو أفكارا.

ويستطرد صالح......عند البدء بالكتابة لا أظن أن ثمة بوصلة تحدد مساري، صوب جهة أو أخرى، ولا خرائط أيضا.أنه أشبه بسفر إلى مجهول لا تعرف تضاريسه ، ولا إلى أين تفضي بك المسالك. ثمة رغبة ملحة في الكتابة ، رغبة يصعب مقاومتها ، وما أثار أو أيقظ هذه الرغبة بداخلي شيء قد يكون غامضا " ربما صورة من حلم أو شذرة من ذاكرة" أو شيء يمكن معرفته لكنه نتاج الصدفة " عنوان يخطر بالبال، محادثة، لقطة من فيلم ، لوحة..إلخ". إذن الرغبة تأخذني إلى أرض لم أزرها من قبل، أرض عذراء ، وتبدأ الأشياء في التشكل كلما خطوت وتعثرت. أجد عند كل منعطف شيئا ينتظرني ليلهب مخيلتي: ريحا، مرفأ، بشرا، حقولا..عوالم تنبثق تريد ان تحتل مكانا في النص ، وأنا أمضي غير عارف إلى أين سأصل ومتى..لا شيء واضح ، لاشيء محدد ، تأخذني اللغة ، تأخذني المخيلة، وترمي بي في أفران النص.

عندما أكتب نصا وفق مخطط موضوع سلفا ، أو وفق عناصر محددة تدلني إلى المسالك والمنافذ والمخارج حتى النهاية، فإني أشعر بالضجر وأكف عن الكتابة لأنني عندئذ أفتقد الخاصية الأهم للكتابة: المتعة. لذلك أحب أن أبدأ في الكتابة وليس بحوزتي غير خط أو صورة، حتى لو كانت غامضة.النص إذن يشكل نفسه انطلاقا من صورة معينة او جملة أو انطباع.

ويتابع صالح....أثناء الكتابة ، كل العناصر تشتغل : الوعي واللاوعي ، الذاكرة، المعرفة، المخيلة..سنوات الخبرة كلها تتداخل ولا يوجد عنصر يتغلب على الأخر. دع نفسك خمس دقائق مع المخيلة ، بتركيز شديد وذهن منفتح، وسوف تعطيك المخيلة صورا لا تعد ، كل ما عليك هو ان تلتقط الصورة، وتضعها ضمن بناء محكم ومتناسق، أما في مرحلة التصويب والتنقيح وانتقاء المفردات وتحسين الجمل، فيأتي دور الوعي ليتدخل ويحسم.

للعناوين وظائف متنوعة : إيضاحية ، إيحائية، رمزية، دلالية، تفسيرية..إلخ..شخصيا أميل إلى العنوان الذي له رنين شعري ، جمالي ، وفي الوقت ذاته يعبر عن جوهر النص، ويكون مفتوحا على عدد من القراءات ، من التأويلات.

ويختتم أمين صالح الندوة بالقول..الكتابة عندي ليست عملية عقلانية، ذات دوافع واضحة ومدروسة، محكومة بمنطق وأسباب ونتائج ، قابلة للشرح والتفسير. هل يعرف المرء لم يحيا؟ أو لم يحيا؟ إنه يحيا فحسب، يحلم فحسب.التأويل والمعنى يأتي في ما بعد . هل يعرف المرء لم يكتب؟ إنه يكتب فحسب. هكذا أتنفس هواء الكتابة تاركا التأويل للآخرين.