العدد 3418
الخميس 22 فبراير 2018
banner
هذا الذي لا يباع ولا يشترى
الخميس 22 فبراير 2018

في السبعينات، انتقل لاعب من الفريق الذي أؤيده للعمل في دولة أخرى، واللعب مع فريق هناك، مع أن اللاعب ليس أسطورياً ولا أذكر أنه كان متميزاً، لكنه من كتيبة الفريق، لا أدري لماذا شعرت بالضيق من هذا القرار: أفهم أن يعمل في بلد آخر، ولكن يلعب لغير النادي؟! لم تكن مسألة انتقال اللاعبين معروفة ومتداولة كما هي الآن، ولم يكن يخطر على بال اللاعبين أو الجمهور أن يقبلوا هذا الأمر، حتى أوائل الثمانينات في البحرين حين انتقل فؤاد بوشقر من “الوحدة” إلى الرفاع، وكذلك فعل عبدالصاحب عبدالنبي من المنامة، ويوسف عبدالعزيز من الأهلي، ولكن الأمر كان محدوداً جداً.

قبل مدة قصيرة، شاهدت مشهدا مثيراً تم تسجيله في أوروبا، وذلك أن فريقاً تلفزيونيا أجرى تجربة عملية على بعض رؤساء روابط المشجعين في أندية أوروبية كبيرة، وذلك بأن كانوا يمثّلون على رؤساء الروابط بأنهم يسوقون لفريق معين، ويريدون من المشجع الانتقال من تشجيع هذا الفريق إلى ذاك، كان الممثلون يعرضون مبالغ مادية كبيرة، ويرفض رئيس الرابطة، ويزيدون ويرفض... ويزيدون ويرفض، ويضيفون سيارة رياضية فاخرة... وهذه المرة يرفض أيضاً.

لا أعلم الدوافع التي تحرّك اللاعب للتنقل من نادٍ إلى آخر، حتى ربما يندر اليوم في عالم الاحتراف الرياضي أن يبدأ لاعب مع فريق وينهي مسيرته معه، وربما يعتبر ذلك عيباً إلا إن استجابت الإدارة لشروط اللاعب، لكن الأكبر من ذلك: ما الذي يدفع المشجعين إلى التعصب لفرقهم الرياضية؟ لماذا يتطاولون على بعضهم، ويشيعون الفوضى والدمار والتخريب في الشوارع أحياناً في حال الهزيمة؟ لماذا يأخذ الحماس المتفرجين أكثر من اللاعبين؟ وإذا فهمنا أن المشجّع يكون متحمساً ومتعصباً على المدرّجات بفعل “سيكولوجية الجماهير”، فما باله يواصل تعصبه وهو لوحده أيضاً وليس ضمن جمهور؟

هذا الأمر، الذي حتى مع وجود التفسيرات النفسية له، سيظل سرّاً متمثلاً في الانتماء، فالمشجع هو الغارم الأكبر من هذا الانتماء، الذي يدفع من أعصابه وصحته وأمواله وربما سلامته الجسدية لقاء تشجيع الفريق.

هذا الذي لا يفسَّر ربما أصحّ ما يكون لإسباغه على حب الأوطان، لأنه سليقة، ومهما طنطن المطنطنون بتعداد أفضال الأوطان على المواطنين، فلن تجد من الأسباب ما يجعل الواحد منهم يقدم روحه فداء لوطنه، فحتى من يغيّرون جنسياتهم يظلون محتفظين بهويّاتهم في شرايينهم لجيلين أو ثلاثة، يظلون متعصبين للأوطان التي أتوا منها، ويبقى حلمهم هناك، وأوراقهم هنا، قلوبهم هناك وأجسادهم هنا، وتترقرق دمعة شوق ومحبة لمنبته الذي أتى منه على الرغم من اختيار الكثير منهم طواعية العيش في مكان آخر، بل سعى البعض منهم سعيه للحصول على جنسية البلد الآخر... هذا الشعور الهائم العائم، هذا الذي لا يعرّف، هذا الذي لا يباع ولا يشترى... هذا هو الوطن، هذا ما قال عنه محمود درويش: ما أكبر الفكرة... ما أصغر الدولة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية