العدد 3751
الإثنين 21 يناير 2019
banner
بشفافية عبدالجبار الطيب
عبدالجبار الطيب
أفكار في التوازن المالي
الإثنين 21 يناير 2019

عندما نتكلم عن التوازن المالي فبلاشك نقصد التوازن الحقيقي وهو التوازن في الاقتصاد بشكل عام لا التوازن الحسابي في الإيرادات والمصروفات وهو ما يسميه علماء المالية العامة بالتوازن الصوري .

نقطة البداية في رأيي هي باعتبار قاعدة التوازن مبدأ دستوريا على غرار فرنسا ومصر، ففي فرنسا قرر المجلس الدستوري الفرنسي في العام 1979 أن التوازن مبدأ أساسي من مبادئ القانون المالي، فهو لا يقتصر على الميزانية العامة للدولة، وإنما يمتد ليشمل الاقتصاد الوطني في مجموعه، أما في مصر فالدستور الجديد عام 2014 فقرر فكرة التوازن في المادة 124.

بعد أن نؤمن بأن التوازن المالي مسألة دستورية، إما بالنص أو بالفهم، وأن لها دلالة تتجاوز مجرد التوازن الحسابي وجب العمل على تحقيق التوازن في الاقتصاد، بأن تعمل الميزانية العامة على ذلك مع سياسات أخرى ليس هنا محل بيانها، ففي فترات التضخم تقلل الحكومة إنفاقها لخفض معدل التضخم ويمكن للمصرف المركزي أن يزيد من إصدار سندات الدين ليسحب جزءا من القوة الشرائية في المجتمع، وفي فترات الركود تزيد الحكومة من الإنفاق لتنعش الاقتصاد، وهكذا تعمل الميزانية على خلق توازن اقتصادي، وهو المنشود، فتكون الميزانية العامة أداة من أدوات توازن الاقتصاد، فلا يكون التوازن مقصودا لذاته حسابيًا في الميزانية العامة، وإنما وسيلة لضبط إيقاع التوازن في الاقتصاد الوطني ككل.

وإن كنا بحاجة لتكون الميزانية في توازن حسابي فلا حرج، فالحاجة تولد الاختراع، وهنا أقترح على الحكومة أن تكون تقديرات الميزانية متوازنة دون عجز، ومن الميزانية القادمة، وذلك من خلال التصورات التالية:

١- فصل ميزانية القوى العاملة والتشغيلية عن ميزانية المشروعات، وتكون ميزانية القوى العاملة والتشغيلية متوازنة حسابيا، الإيرادات تساوي المصروفات، مع العمل على ترشيد الإنفاق وضبطه في هذه الميزانية، خصوصا في جانب المصروفات التشغيلية بغية تحقيق فائض، وتغذى هذه الميزانية بجزء من إيرادات الضرائب والرسوم وريع بيع النفط.

اما ميزانية المشروعات فتغذى من إيراد غير عادي، وهو سندات الدين العام وأذونات الخزانة وما يرد من أرباح “ممتلكات” لأن المشروعات من المفترض ان تدر ربحا، وبالتالي يمكن أن تعمل على تغطية ما تم اقتراضه في ظل سياسات استثمارية كفوءة.

هذا التصور يجعل التركيز الحكومي أكثر على ميزانية المشروعات لتحقيق أرباح، ومن ثم تغطية الدين العام وادارته وضبطه، أما ميزانية القوى العاملة والتشغيلية فهي سهلة التقدير ولا يتوقع فيها تغييرات كبيرة أثناء التنفيذ، وعليه فيمكن ضبطها بسهولة وترشيدها بحنكة خصوصا في جانب المصروفات التشغيلية لتحقيق فائض.

٢- فكرة أخرى وهي أن تكون ميزانية الأعوام 2019 -2020 ميزانية صفرية، بمعنى تصفر جميع الأرقام وتبنى الميزانية على أرقام متوازنة ما بين الإيرادات والمصروفات، ويكون التقدير غير مبني أساسا على السنوات السابقة، بما فيها من تراكم عجوزات وتجاوز إنفاق، بل ما نحن في حاجة حقيقية له في المرحلة القادمة، وهذا يتطلب إلغاء كل ما هو ليس بضروري او كل ما لم يصرف حقيقة، ويستدعي العصف الذهني المركز لتحديد حقيقة الاحتياجات للجهات الحكومية ووضع مؤشرات قياس أداء لتحديد ما تحقق من الإنفاق من وظيفة في القطاعات المختلفة.

وما يتعلق بالعجوزات السابقة يحول الى الدين العام ويضبط ويدار ضمن ملف الدين العام، وهنا نكون أمام تصور واضح فالميزانية متوازنة حسابيا، وبالتالي يتم التركيز والجهد كله في إدارة الدين العام، بمعنى يكون العمل على جبهة واحدة هي الدين العام بحسبان ان الميزانية رسمت متوازنة بما يتضمنه ذلك من ضرورة منع طلب الاعتمادات الإضافية او التكميلية الا في الضرورات وفي ظل وجود مورد يغطيها من الايرادات العادية كالضرائب والرسوم وريع النفط.

ان فكرة التوازن المالي كما تذهب له غالبية الدول تستهدف التوازن الاقتصادي بأن تكون الميزانية العامة اداة ووسيلة لخلق اقتصاد متوازن وبالتبعية يتحقق التوازن المالي ، فلا يقصد التوازن المالي ( الحسابي ) لذاته لما يترتب عليه من رغبة في وقف بعض الإعانات والدعومات المستحقة ، وخفض ميزانية بعض المشروعات التي من الضروري وجودها وان لم تكن تدر ربحا لان ما تنتجه هذه المشروعات مهم لحاجة الناس ولا يقوم بها القطاع الخاص ، وايضاً قد يكون الحرص التام على تحقيق توازن مالي حسابي سببا في التوازن ( لمالية الحكومة ) وهو امر حسن ولكن يزيد من السخط الشعبي وهو امر سلبي غير متطلب.

ختاما نقول ان المواطن الفطن الحكيم وجب أن يكون مما استقر في عقيدته وفهمه ان الدولة تمر بمرحلة مالية حرجة وبالتالي هي مرحلة عنوانها (الضرورات تبيح المحظورات) ، والصبر مفتاح الفرج، وانا لله وانا إليه راجعون، ولكن من الجانب الآخر وجب على الدولة ان تكون خططها واضحة لمن يسير في الشارع ليفهم طبيعة المشكلة والتحديات وما تقوم به الدولة، وما يرجى منه أن يؤديه من دور لكي تمر سفينة الدولة الى بر الأمان.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .