العدد 3754
الخميس 24 يناير 2019
banner
مع سمو الشيخ محمد بن مبارك... (2-2) مسيرة التحديات والإنجازات...
الخميس 24 يناير 2019

في بداية القرن التاسع عشر أصبحت البحرين في أمسّ الحاجة إلى الحماية من مختلف الاعتداءات والأطماع الخارجية التي كانت تهدد استقلالها وسيادتها وسلامة أراضيها، فتوصل حكامها آنذاك إلى جملة من الاتفاقيات والمعاهدات مع بريطانيا العظمى من بينها معاهدة العام 1861م للسلام والصداقة التي اعترفت الحكومة البريطانية بموجبها باستقلال البحرين وتعهدت بتوفير الحماية لها وإدارة علاقاتها الخارجية.

بعد الحرب العالمية الثانية، بات واضحًا أن بريطانيا العظمى، لم تعد عظمى، وأصبحت عاجزة عن تحمل تكاليف شبكة مصالحها ومنظومة ترتيباتها الدفاعية في مناطق شرق السويس.

وفي السادس عشر من يناير 1968م أعلنت حكومة العمال البريطانية قرارها الانسحاب من منطقة الخليج العربي، مما أدى إلى انكشاف البحرين أمنيًا ودفاعيًا وإلى خلق فراغ سياسي وعسكري في المنطقة شجع حكومة شاه إيران على تقمص دور “شرطي الخليج” والتكشير عن أنيابها وتكثيف ادعائها بالسيادة على جزر البحرين.

وعلى الرغم من عدم التكافؤ والتوازن فقد تصدت البحرين بكل عزيمة وثقة وثبات وبقيادة أميرها المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (طيب الله ثراه)، وشقيقه وساعده الأيمن صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، لهذه الأزمة الخطيرة والتهديدات المرعبة وتمكنت من إطفاء خطر الخيار العسكري، ونقلت الأزمة واستدارت بها إلى مسار الحل السلمي الدبلوماسي.

في هذه الظروف الدقيقة، وعند هذا المنعطف المصيري الخطير، وجد الشيخ محمد بن مبارك نفسه، في قلب المعركة الكبرى، كانت بالفعل أم المعارك الدبلوماسية، فالتحدي كان مخيفًا مرعبًا والقضية كانت مصير أرض وشعب والخطر كان يتهدد البحرين كيانًا وهوية.

وبدعم من قيادة عيسى وخليفة، ووقوف شعب البحرين الوفي وراء قيادته الحكيمة، فقد خاض محمد بن مبارك غمار المعركة الدبلوماسية وأدار دفتها بكل كفاءة وبراعة واقتدار، ونالت البحرين استقلالها وحافظت على كل درة من ترابها وسيادتها وصانت هويتها العربية، وأقامت في الوقت نفسه علاقات صداقة متينة وتعاون وثيق مع إيران الشاه مبنية على حسن الجوار والاحترام المتبادل، محققة بذلك قول الله سبحانه وتعالى “فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”.

ولم يكتفِ محمد بن مبارك بهذا الإنجاز الشامخ بل ظل مواصلًا سعيه الحثيث بعد أن نالت البحرين استقلالها في العام 1971م، فأخذ يصول ويجول حول العالم شرقًا وغربًا ضمن جهوده ومساعيه الدبلوماسية لترسيخ استقلال البحرين، وبناء شبكة علاقاتها مع الدول كافة، وإدماجها في المجتمع الدولي والأسرة العربية، وتحقيق حضورها في المحافل الدولية وعضويتها في المؤسسات والمنظمات العربية والإقليمية والدولية وغيرها.

وفي إطار هذا السعي زار الشيخ محمد بن مبارك بومباي في العام 1972 في طريقه إلى العاصمة الهندية نيو دلهي وسكن في فندق “تاج محل” وكنت وقتها طالبًا في جامعتها، فحرصت على زيارته في الفندق للسلام عليه ووجدته ممتلئًا حيوية ونشاطا، ووجدت منه بالغ الترحيب وحسن الاستقبال.

استمر محمد بن مبارك في مواجهة التطورات والأزمات والتحديات التي كانت تعصف بالمنطقة تباعًا، منها مواجهة الخطر الشيوعي والتمدد القومي وحركات السياسيين المتأسلمين، ومنها اختلال العلاقات بين دول المنطقة وجارتها إيران على أثر الثورة التي أطاحت بالشاه في العام 1979م ورفعت شعار تصدير الثورة إلى دول الجوار، جاء بعدها تأسيس منظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في العام 1981م، فنشوب الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، ثم الاحتلال العراقي للكويت في العام 1990م، فحرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت، وحصار العراق ثم احتلالها من قبل الولايات المتحدة في العام 2003م، وانبثاق حركات القاعدة و “داعش” وغيرها من التحديات والأزمات، كل ذلك وغيره كان إلى جانب التعاطي المستمر مع قضية الخلاف مع قطر حول جزر حوار، الذي انتهى إلى نصر دبلوماسي آخر عندما حكمت محكمة العدل الدولية في العام 2001م بتأكيد وتثبيت سيادة البحرين على هذه الجزر في عهد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين حفظه الله ورعاه.

وربما يرى البعض، عن بُعد، بَريقًا لَمَّاعًا يَشِع من منصب وزير الخارجية، لكن الحقيقة تختلف تمامًا، فقد قضى محمد بن مبارك أكثر من 35 عامًا من عمره وزيرًا للخارجية يصارع التحديات والأزمات والصعاب، ويدافع عن وطن صغير المساحة قليل الإمكانات، ويحقق النجاحات والإنجازات، لم يعرف الراحة ولا الاستقرار ولا الانتظام في الأكل أو النوم، في سعي وحركة دؤوب وتنقل دائم بين الطائرات وصالات المطارات وغرف الفنادق الموحشة ومآدب الدبلوماسية المملة بعيدًا عن حضن الوطن والدفء الأسري، وقد انعكس تقدير الدولة له في أوجه كثيرة منها ترقيته إلى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء في العام 2002م.

في وقفتنا بالأمس ذكرت أن سمو الشيخ محمد بن مبارك وزير الخارجية استقبلني في مكتبه في أول يوم من التحاقي موظفًا بسيطًا بالعمل في وزارته في شهر يناير من العام 1973م وأسدى إليَّ باقة من التوجيهات والإرشادات القيمة، وبعد عشرة أشهر، وبالتحديد في شهر أكتوبر من العام نفسه اندلعت “حرب أكتوبر 1973م”، ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار البترول، وأصبح واضحًا أن البحرين ودول المنطقة ستشهد طفرة اقتصادية وتنموية واسعة، فقررت أن أنتهز هذه الفرصة وأدخل مجال العمل الحر، فقدمت استقالتي. وعلى إثر ذلك استدعاني سمو الشيخ محمد بن مبارك إلى مكتبه مستفسرًا عن سبب الاستقالة محاولًا ثنيي عنها، وأمام إصراري قال “إذا ما في أذنك ماي، ليس أمامي إلا أن أدعو لك بالتوفيق، وستبقى أبواب هذه الوزارة مفتوحة لك في حالة رغبتك في العودة إليها”، وقد أصبحت تلك العبارة مصدر تشجيع وثقة لي وأكبر حافز ورصيد وأكبر سبب لنجاحي في مجال العمل الحر، ولا تزال هذه العبارة محفورة في ذاكرتي لا يمكن أن أنساها، تذكرني دائمًا بأفعال وتصرفات الرجال الكبار وتذكرني أيضًا بأنني في بلد خير ومحبة ووئام.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .