+A
A-

رحلة للبحث عن التوابل أثبتت "فعلياً" كروية الأرض

خلال القرن الخامس عشر، حظيت تجارة التوابل بمركز هام بالاقتصاد العالمي، حيث أقبل الجميع عليها بفضل دورها في حفظ الطعام وتحسين مذاقه، وقد اعتبرت حينها كل من القرفة وجوز الطيب والقرنْـفُـل والفلفل الأسود أكثر التوابل المطلوبة لدى الأوروبيين. ومع عدم قدرتهم على زراعتها ببلدانهم بسبب المناخ البارد، لم تتردد القوى الأوروبية في البحث عن طرق بحرية تقودهم نحو جزر التوابل المعروفة أيضا بجزر مالوكو والواقعة بأندونيسيا حاليا.

وفي الأثناء، تزعمت كل من البرتغال وإسبانيا عملية البحث عن طرق بحرية نحو جزر التوابل حيث تنافست هاتان القوتان الأوروبيتان للهيمنة على تجارة التوابل. وبحلول العام 1518، هيمنت البرتغال على الطريق البحري الوحيد نحو جزر التوابل، والذي يمر عبر رأس الرجاء الصالح بأقصى جنوب القارة الأفريقية وهو الأمر الذي أقلق إسبانيا كثيرا.

وعرض بحّار مغامر ومستكشف برتغالي، عرف بفرديناند ماجلان (Ferdinand Magellan)، على ملك البرتغال مانويل الأول (Manuel of Portugal) فكرة فريدة من نوعها للعثور على طريق بحري آخر نحو جزر التوابل يمر عبر العالم الجديد المكتشف حديثا. ومع رفض مقترحه لأكثر من مرة، تخلّى ماجلان عن البرتغال واتجه نحو إسبانيا ليعرض خدماته على ملكها شارلكان (Charles V) والذي استحسن فكرة العثور على طريق تجاري جديد ووافق على تمويل مغامرة ماجلان البحرية غير المسبوقة.

غادرت البعثة التي قادها ماجلان إسبانيا يوم 20 من سبتمبر سنة 1519 على متن 5 سفن لتعبر المحيط الأطلسي وتحلّ بما يعرف حاليا بالبرازيل بعد نحو شهر. وعلى إثر ذلك، أبحر ماجلان نحو جنوب القارة الأميركية ليبلغ يوم 21 أكتوبر 1520 ممرا مائيا بين أرض النار وكاب هوورن، سُمي لاحقا بمضيق ماجلان نسبة لهذا المغامر البرتغالي. وخلال هذا الشوط الأول من رحلته نحو جزر التوابل، اضطر ماجلان لقمع تمرد عدد من أفراد طاقمه، وخسر سفينتين حيث غرقت إحداهما بسبب سوء الأحوال الجوية، وتمردت الثانية ضد قائدها لتعكس طريقها وتعود أدراجها نحو إسبانيا.

وبعد أكثر من شهر قضته سفن ماجلان في عبور المضيق، وجد الجميع أنفسهم أمام محيط آخر أطلق عليه البحّار البرتغالي اسم Mar Pacifico أي المحيط الهادئ.

وعقب دخوله للمحيط الهادئ، آمن ماجلان بأن الرحلة قد شارفت على النهاية، وبقرب وصوله لجزر التوابل ليخيب ظنه بعد نحو 3 أشهر من الإبحار شارف خلالها طاقمه على الهلاك حيث بلغ بعد كل هذه الفترة جزيرة غوام (Guam) خلال شهر مارس 1521 ليتمكن أخيرا من شحن سفنه بالمؤن ويواصل طريقه ليحط الرحال بمنطقة سيبو (Cebu) بالفلبين، والتي سرعان ما حظي بعلاقات طيبة مع سكانها.

وخلال تلك الفترة، كان ماجلان على مقربة من جزر التوابل وبدل مواصلة طريقه نحوها، فضّل المغامر البرتغالي مدّ يد العون لأصدقائه بمنطقة سيبو والذين طلبوا مساعدته للتغلب على أهالي جزيرة ماكتان (Mactan) القريبة. وإيمانا منه بقدرته على حسم المعركة بشكل سريع بفضل التقدم التكنولوجي العسكري الذي تمتّع به جنوده، قاد ماجلان الهجوم على جزيرة ماكتان، مخالفا بذلك نصائح مساعديه الذين دعوه للتركيز على مهمة البعثة، ليقتل يوم 27 أبريل 1521 عقب إصابته بسهم مسموم.

وبسبب هذه الحادثة، لم يتمكن ماجلان من بلوغ جزر التوابل. وعقب خسارتها لسفينة أخرى، واصلت بعثته طريقها لتبلغ هدفها يوم 5 نوفمبر 1521 وتعود محمّلة بالتوابل نحو إسبانيا.

في النهاية لم تتمكن سوى سفينة واحدة، عرفت بفيكتوريا، من العودة لأرض الوطن عقب مرورها برأس الرجاء الصالح وجزر الرأس الأخضر حيث حطّ طاقمها الرحال بإشبيلية خلال شهر سبتمبر سنة 1522 بعد مضي 3 سنوات على انطلاقهم.

ومن ضمن 270 بحارا انطلقوا سنة 1519 لم يتمكن سوى 18 فقط من العودة بعد 3 سنوات وقد كان الناجون في حالة يرثى لها بسبب المرض والجوع.

من خلال هذه الرحلة، أبحرت بعثة ماجلان من إسبانيا لتمر عبر أميركا وآسيا وأفريقيا قبل أن تعود مجددا نحو نقطة الانطلاق لتنجح بذلك في القيام بأول رحلة دارت حول الكرة الأرضية عبر التاريخ.

وعقب نجاح رحلتها حول الكرة الأرضية، تمكنت بعثة ماجلان من وضع حد نهائي لنظرية الأرض المسطحة التي انتشرت بشكل واسع بالعصور الوسطى، لتثبت بذلك الشكل الكروي للأرض. فضلا عن ذلك، عرفت علوم الجغرافيا تغيرا هاما حيث تبيّن أن الأرض أكبر بكثير مما اعتقده الجميع حينها.

ويصنّف العديد من المؤرخين شخصية العبد ذي الأصول الفلبينية إنريكي (Enrique of Malacca) كأول إنسان دار حول الكرة الأرضية حيث استُعبد الأخير وجيء به مما يعرف حاليا بالفلبين لإسبانيا قبل نحو 10 سنوات، ليشارك لاحقا في بعثة ماجلان ويعود مجددا ويستقر بموطنه الأم كإنسان حر عقب مقتل سيده فرديناند ماجلان.