+A
A-

زيارة العاهل لفرنسا... تفاهمات ورؤى سياسية متناغمة

نجحت زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى جمهورية فرنسا الصديقة التي أثمرت فعالياتها اليوم في تحقيق النتائج المرجوة منها، وجسدت حقيقة النهج الفاعل الذي تتبناه المملكة لترسيخ أسس تحالفاتها بالدول الكبرى، وإقامة شراكات جديدة في علاقات البحرين مع مجتمع السياسة والمال والأعمال بشتى الدول، وبما يعود بالنفع والخير على المملكة وشعبها الكريم.

تفاهمات ورؤى سياسية متناغمة
وشهدت أجواء الزيارة السامية التي ضمت وفدا كبيرا من المسؤولين ورجال الأعمال الكثير من المنجزات المحققة، فمن جهة، وُصفت جولة المباحثات التي أجراها حضرة صاحب الجلالة عاهل البلاد المفدى مع فخامة الرئيس الفرنسي بالمثمرة، سيما أنها عززت من متانة العلاقات الثنائية الطيبة بين البلدين والشعبين الصديقين، والتي تعود إلى عقود مضت، وعبرت عن الإرادة المشتركة لتذليل أية عقبات قد تعترض تطويرها.

وتأكد ذلك في أكثر من مظهر، فإضافة إلى حفاوة الاستقبال والترحيب بالوفد البحريني الكبير، والتوقيع على عدد من اتفاقات التعاون ومذكرات التفاهم بين حكومتي البلدين شملت تدريب الأطباء المتخصصين، والتدريب الإعلامي والتعليم، سيما العالي منه والجامعي، جاءت الكلمات الحميمة التي عبر فيها الرئيس الفرنسي عن حرص بلاده على دعم كل ما من شأنه أن ييسر سبل الانطلاق لعلاقات البلدين إلى آفاق أكثر رحابة، وبما يشمل مختلف مجالات التعاون والتنسيق، خاصة مع توفر الأساس اللازم لتطوير هذه العلاقات من مصالح حيوية مشتركة، وتفاهمات سياسية بشأن المستجدات الإقليمية والدولية، ورؤى ومواقف متناغمة إزاء العديد من قضايا الاهتمام.

وكشفت الزيارة السامية والفعاليات التي شهدتها عن قناعتين مشتركتين، الأولى: ضرورة البناء على عدة ركائز لتطوير العلاقات البحرينية الفرنسية، وأبرزها: تشابه وجه البلدين الحضاري، حيث تتسم ثقافة وروح الشعبين الصديقين بـ "التسامح والمحبة والتعايش والقيم الرفيعة"، الثانية:عمق العلاقات التاريخية التي تربط البلدين، وذلك بالنظر لدور التجار والمستكشفين الفرنسيين الذين كان لهم السبق ليس فقط في التعرف على البحرين وقدم حضارتها وإنما في دعم العلاقات معها منذ عقود وتطويرها إلى ما وصلت إليه في الوقت الراهن.

وكان حضرة صاحب الجلالة العاهل المفدى قد أكد في عدد من التصريحات خلال وجود جلالته في العاصمة باريس على أن البلدين يحظيان بروابط "استراتيجية" متينة تشمل جميع القطاعات، ولدى قادتهما العزم والإرادة على جعْل علاقاتهما أكثر تطورا، خاصة أنها "تطرد باستمرار وعاما بعد عام"، سيما في مواجهة "التحديات والمخاطر الراهنة" التي يواجهها أمن العالم واستقراره، وبخاصة مع اهتمام البحرين بالحادث المروع الذي تعرضت له كاتدرائية "نوتردام" التاريخية، وحرص جلالة العاهل المفدى على التعبير عن تضامن المملكة مع باريس إثر هذا الحادث.

وتبرز هنا أهمية ما أسفرت عنه مباحثات حضرة صاحب الجلالة العاهل المفدى مع الرئيس الفرنسي، خاصة مع اتفاق الجانبين بشأن إقرار "السلام في الشرق الأوسط" و"استدامة الاستقرار في الخليج العربي"، وضرورة أن تسعى جميع الأطراف والحلفاء لحماية المنطقة "من شر الإرهاب بكل صوره وتنظيماته"، وأن تعمل جميعها معا لـ "وقف كل أشكال التدخل الخطير في شؤونها".

من جهة ثانية، جسدت الزيارة السامية أهمية تجاوز العلاقات البحرينية ـ الفرنسية المفهوم التقليدي للتفاعلات البينية بحيث تتجاوز الجانبين السياسي والدبلوماسي لتمتد وتشمل كذلك الجوانب الاقتصادية باعتبارها الآلية الأكثر أهمية في عالم اليوم لتعميق أطر التعاون المتشعبة بين البلدين، وهو ما تجلى واضحا بالنظر إلى الوفد الاقتصادي الكبير المرافق لحضرة صاحب الجلالة خلال زيارته، وتنظيم منتدى رجال الأعمال المشترك، فضلا عن اللقاءات التي أجراها جلالته مع وفد رجال الأعمال والمسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم وزير الاقتصاد والمالية.

ويُنظر لجملة الفعاليات الاقتصادية التي شهدتها الزيارة، سيما منها التي جاءت بمشاركة واسعة من نحو 100 من رجال الأعمال البحرينيين والفرنسيين، باعتبارها آلية مهمة باتت تعتمدها المملكة في كل تحركاتها الدبلوماسية التي يقودها جلالة العاهل المفدى لتدعيم بيئة الأعمال الجاذبة بالبلاد، وللتعريف بالحوافز والأجواء التي تقدمها لاستقطاب مزيد من تدفقات الاستثمار إليها، وهو ما يمثل رافعة أساسية من روافع قوة الاقتصاد الوطني، وقاطرة محورية لتحريك وتنشيط العجلة التجارية التي يُعول فيها على دور رأس المال الوطني لقيادة حركة النمو والنهوض بالبلاد.

ويبدو مهما هنا التأكيد على ثلاثة نقاط مهمة تعد خلاصة للتحركات الاقتصادية البحرينية في باريس، إحداها: تعدد وتنوع الأنشطة الاقتصادية التي يمكن أن تربط البحرين بفرنسا، وخصوصا في مجالات "الطاقة والنقل والاستثمار الثقافي والتعليمي والسياحي"، مثلما أشار إلى ذلك حضرة صاحب الجلالة العاهل المفدى، الثانية: مدى حرص الجانبين على تمتين الروابط الاقتصادية، والذي تبدى واضحا في توقيع عدد من اتفاقيات ومذكرات التفاهم ، التي لم تقتصر على الجانب الرسمي فحسب، مثلما ذُكر سلفا، وإنما شملت أيضا الشركات الفرنسية، وبلغت قيمتها 2 مليار دولار أميركي لتصل إجمالي قيمة العقود البينية 4.6 مليار دولار أمريكي.

الأخرى تتعلق بالفرص الكبيرة التي أتاحها منتدى رجال الأعمال المشترك للتعريف بأجواء التجارة وبيئة الاستثمار في المملكة، والتي حظيت باهتمام كبير من جانب المستثمرين الفرنسيين الذين أبدوا اهتمامهم بسبل تطوير العلاقات المشتركة، وأشادوا بميزات الإنتاج التنافسية التي تتمتع بها البلاد، والإجراءات المتخذة لتشجيع رجال الأعمال للنفاذ لها، ومن ثم لمنطقة الخليج ككل باعتبار أن البحرين تعد بمثابة البوابة الرئيسية لهذه السوق الواسعة والمهمة.

وقد استهدفت الزيارة السامية تحقيق جملة من الأهداف التنموية بالمملكة، فإضافة إلى تطوير وتبادل الخبرات، والاستفادة من قدرات الشركات الفرنسية في مجالات عدة، فإنها رمت أيضا إلى تحقيق أكبر استفادة ممكنة في مشروعات التحديث والنهضة التي تشمل شتى أرجاء البلاد، ومن ثم خلق وظائف ذات مردود اقتصادي كبير، لا سيما في إطار مشروع توسعة مطار البحرين وتزويده بأفضل سبل الراحة، ومشروع تطوير الاكتشاف النفطي الأخير بالمملكة، ومشروعات البنى التحتية اللازمة لتكنولوجيا المعلومات والاتصال.

وبدا ذلك مهما بالنظر إلى ما تملكه الشقيقة فرنسا من خبرات، حيث تساهم فرنسا بسدس الإنتاج الصناعي للاتحاد الأوربي محتلة بذلك المرتبة الـثانية أوروبيا والـرابعة عالميا، وتعد ثاني مصدر للمنتجات الزراعية عالميا، والأولى عالميا في إنتاج الكهرباء، وتتصدر المرتبة الـرابعة في إنتاج السيارات والـسادسة عالميا في النفط، والمرتبة الـحادية والعشرين في الخدمات المالية، وتأتي ضمن أكبر 50 شركة عالمية في الخدمات المصرفية، وتحتل شركاتها المراتب الأولى في ترتيب أكثر شركات العالم نموا في مجال التكنولوجيا، وتستقبل نحو 85 مليون سائح سنويا وغيرها بحسب مواقع.

ولا شك أن الزيارة السامية لحضرة صاحب الجلالة العاهل المفدى وضعت في حسبانها هذا التطور الكبير الذي حققته النهضة الفرنسية في شتى المجالات والقطاعات، ومن ثم، فإنه يتوقع أن تنمو حركة التبادل التجاري بين البلدين خلال الفترة القادمة، حيث بلغت التجارة غير النفطية نحو 507 مليون دولار أمريكي عام 2018 بزيادة 105% عن عام 2015، ومع احتضان المملكة لعدد من كبريات الشركات والبنوك الفرنسية، فإنه ينتظر أن ينمو بوتيرة متسارعة التعاون التجاري والاقتصادي في السنوات القليلة المقبلة.