العدد 3855
الأحد 05 مايو 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
عظماء‭ ‬المجد‭ ‬والحب‭ ‬الغادر‭ ‬والاكتئاب
الأحد 05 مايو 2019

يقول عالم الاجتماع علي الوردي “العالم كله عبارة عن حفلة تنكرية”، نلبس الأقنعة لنخفي صناديق العقل الباطن المغلقة. يهرب صاحب المجد من الحزن، لكن رصاصة القدر أحيانا تلاحقه كما قُتل أسطورة الفاشن جياني فرزاجي برصاصة شاب مضطرب. ومن يصدق أن الكاتب الروس الكبير نيقولاي غوغول يموت بسبب جرثومة فكرة أدخلها بعقله رجل دين حين أقنعه بأن الصيام المتواصل طريق الخلاص، وحين عبأ عقله بأفكار تحريمية متطرفة!

وما الذي يجعل كتابات الروائي الياباني الشهير والمتأثر بالأدب الغربي، هاروكي موراكامي سوداوية في بعضها؟ وكيف لاحق ثوبُ الطفولة الممزق الكاتب الشهير دايل كارنيجي حتى كاد يتحول إلى عقدة رغم ثراء ما بعد الفقر، وهو الذي كتب كتاب “دع القلق وأبداً الحياة”؟

وما الذي يجعل العبقري نيوتن مضطربا ومن الصعب جدًا الجلوس فترة طويلة معه، حيث كان متقلب المزاج إلى حد كبير، وسريع الانفعال، وشديد الغضب، وكذلك ضيّق الأفق، كما كان يتحدث مع نفسه كثيرًا بصوت عال، ويُخاطب أشخاص وهمين غير موجودين. هل هو ذات الانفصام الذي أصاب مجنون الرياضيات جون ناش؟

حتى عظماء المجد يحتاجون إلى التوازن الشخصي كي ينعموا بالحياة. لا شي أخاف منه على عظيم المجد قدر خوفي من عفريت الحب. ولو كان بيدي لشمعت بوابات قلوبهم من الحب بالشمع الأحمر. اقرأوا سيرة مصممة الأزياء الفرنسية كوكو شنيل ماذا فعل بها الحب! فرغم جراحه نستطيع الخروج منه ولو نزفا. نزار المجد يرتل رثاءه لحبيبته بلقيس التي قتلت ببيروت: بلقيسُ..

إنَّ زُرُوعَكِ الخضراءَ..

ما زالتْ على الحيطانِ باكيةً..

وَوَجْهَكِ لم يزلْ مُتَنَقِّلاً..

بينَ المرايا والستائرْ

حتى سجارتُكِ التي أشعلتِها

لم تنطفئْ..

ودخانُهَا

ما زالَ يرفضُ أن يسافرْ بلقيسُ..

كيفَ تركتِنا في الريح..

نرجِفُ مثلَ أوراق الشَّجَرْ؟

وتركتِنا - نحنُ الثلاثةَ - ضائعينَ

كريشةٍ تحتَ المَطَرْ..

أتُرَاكِ ما فَكَّرْتِ بي؟

وأنا الذي يحتاجُ حبَّكِ.. مثلَ “زينبَ” أو “عُمَرْ”. بلقيسُ:

إنْ هم فَجَّرُوكِ.. فعندنا

كلُّ الجنائزِ تبتدي في كَرْبَلاءَ..

وتنتهي في كَرْبَلاءْ.

يقول فرويد “لا يمكنك أن تجد السعادة وأنت غارق في حديثك عن الألم”. مسكين هذا العاشق، إن لم يعرف الطبيعة البشرية، فلا أحد يستحق من البشر أن تمنحه عشقك، فكل معشوق قد يتحول إلى جلاد مشاعر، وهو معك في الحقيقة سفاح تحت التدريب، وكل زهرة مسدسُ

ُغدر وبندقية صيد تصوب مستقبلا نحو فرحك. العشق هو أقصر طريق لنسج مشنقة الابتزاز العاطفي والمادي. بالعشق تحولون البشر إلى قراصنة لسرقة خزائن سفن حياتكم، وإلى قتلة متسلسلين لقتل أعماركم. يوم تشعرون أن المعشوق أو المعشوقة يحاولون الضغط عليكم بابتزاز خوف الفضيحة، فجروها بوجوههم، وانزعوا منهم هذه الورقة الخبيثة، فلا عبودية أكبر من أن يبتزكم أحد باسم الحب. أنا لا أؤمن بمقولة الكاتب الأميركي اندرو شافيرعندما قال “إن العقول الكبيرة والقلوب المحطمة مترافقان على الدوام”، قدر العظيم أن يعيش الحياة، ويتمتع بالوجود، وألا يقدم مجده لجزار أو مسلخ باسم الحب.

ديدرو الفرنسي أهم فلاسفة التنوير وقع في حب امراة مصاصة دماء، ولكنه تركها بعد أن اكتشف خيانتها له. إن هذه المرأة التي نشفت جيوب ديدرو من المال، خانته مع رجل يملك ثروة أكبر. حتى اوغست كونت الفيلسوف الفرنسي الشهير الذي أطلق مصطلح “علم الاجتماع” كان رغم عظمته الفكرية مغفلا عاطفيا. تزوج من بائعة هوى، فتلاعبت به حتى أوصلته إلى حافة الجنون، وبسببها دخل كونت في حالة قاتلة من الإحباط الذي جعله يقضي معظم الوقت متمددا على السرير.

كثير من عظماء المجد يتحولون إلى لعبة صغيرة في يد امراة بسبب العشق الأعمى. استرجعوا أيها العشاق قلوبكم، ولو بأثر رجعي، فالبشر لا يستحقون أن تهبوهم قميصا باليا في العشق، فكيف بأغلى ما عندكم، وهو القلب!

الفشل المتكرر في الزواج أصاب الفيلسوف الإنجليزي الشهير برتراند راسل في مقتل، أما البيركامو فقد قادته خيانة زوجته له إلى الانتقام اللاواعي منها بالتنقل بين أحضان النساء، إلى السقوط في العزلة. يقول فريدريك شيلر “الأغلال الحديدية والأربطة الحريرية كلاهما قيود بذات القدر”.

نعم نحن في سجون حريرية، وإن بدت جميلة، فالعشق زنزانة انفرادية بسلاسل من مشاعر، تقفز في وجهك فئران ذكرياتها السامة، وإن رأيناها حمائم. فكم من ثوب نرتديه نظنه جميلا، وهو في الحقيقة لباس سجن أبدي، يُعتقل فيه القلبُ ليحكم بحكم مؤبد مع الأعمال الشاقة. فالقلادة تتحول إلى مشنقة، والأساور على معاصمنا قيود، وإن كانت من ذهب، فكلهم في بدايات العشق رائعون حتى يكون الإعدام الأخير.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .