العدد 3876
الأحد 26 مايو 2019
banner
الضربة‭ ‬النووية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية
الأحد 26 مايو 2019

فترة الأسبوع الماضي التي قضيتها في لندن أتاحت لي فرصة متابعة ردود فعل عاصمة المال والأعمال الأوروبية حيال الإجراءات الحمائية التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد بعض الدول، وفي مقدمتها الصين، وكذلك الإجراءات الانتقامية المضادة التي اتخذتها الصين بشكل خاص ضد الولايات المتحدة ضمن معارك الحرب التجارية التي تدور رحاها الآن كما ذكرنا في اللقاء السابق.

نعم، لندن هي عاصمة المال والأعمال في أوروبا، وستبقى كذلك على الرغم من خروج بريطانيا المرتقب خلال العام الجاري من عضوية الاتحاد الأوروبي؛ لماذا؟ لأن لندن هي أكبر مدينة في أوروبا، وأكبر مركز مالي متخم بالرساميل في العالم يتهافت عليه أثرياء العالم وشركاتهم ومصارفهم حتى قبل قيام الاتحاد الأوروبي، وأن مكانة لندن كمركز مالي عالمي ليست مرتبطة بعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي فقط، وإنما مرتبطة بعدة عوامل واعتبارات أخرى من أهمها ترسُّخ تراث وثقافة المال والاستثمار فيها، ولغتها الإنكليزية التي تعد لغة المال والمصارف في العالم دون منازع، وتَوفر الأنظمة والقوانين المطلوبة إلى جانب وجود الشركات المحاسبية العالمية المرموقة وشركات التأمين والمحاماة المشهورة واللامعة والخبرات والكفاءات والقدرات الإدارية المتميزة.

في قلب لندن وضمن مساحة تبلغ ميلًا مربعًا فقط، يقع “حي المال” البريطاني الذي يحتضن نحو 250 مصرفا أجنبيا، وفيه تُدار ثروات مالية تقدر بنحو 5.4 ترليون دولار، ويساهم الحي بنحو 10 % من الناتج المحلي البريطاني المقدر بـ 2988 مليار دولار و12 % من الدخل الذي تحصله الخزينة البريطانية من الضرائب. وحسب إحصاءات “سيتي يوكيه TheCityUK”، فإن الصفقات المالية التي ينفذها حي المال البريطاني تقدر بنحو 2.7 ترليون دولار يوميا، وتتم في كل يوم المتاجرة في 70 % من السندات العالمية و20 % من الأسهم العالمية المسجلة في البورصة البريطانية.

المختصون والمعنيون والمهتمون بقطاع المال والتجارة والاقتصاد في لندن وغيرها من العواصم يتفقون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في قلقهم وتحذيراتهم من النتائج السلبية وإرهاصات الحرب التجارية على اقتصاد الولايات المتحدة والصين بشكل خاص وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام، ويتهكمون على ما صرح به الرئيس ترامب مؤخرًا إلى محطة “فوكس نيوز” من أن الولايات المتحدة تجني مليارات الدولارات من الحرب التجارية على عكس الصين، التي ليست في وضع جيد، ويقولون إن هذا التصريح لا يلامس الحقيقة، إذ إن بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي الصادرة يوم الخميس الماضي أظهرت انخفاض فائض الميزان التجاري السلعي للاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة في الربع الأول من العام الجاري، فيما ارتفع العجز مع الصين! كما أن تقارير وزارة التجارة الأميركية ذكرت أن مبيعات التجزئة تعاني انخفاضا ملحوظا في الولايات المتحدة، وأن بيانات بنك الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) أظهرت استمرار انخفاض الإنتاج الصناعي، إلى جانب أن تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي صدرت في الأسبوع الماضي بتاريخ 21 مايو 2019 تؤكد أن النمو  في الصين وأميركا سيتجه إلى الانخفاض بحلول 2021 و2022 إذا استمرت الحرب التجارية بينهما، كما حذرت المنظمة، التي تتخذ من باريس مقرًا لها من التداعيات السلبية للحرب التجارية مؤكدة أنها سوف تكبد العالم خسائر تقدر بنحو 600 مليار دولار خلال العام الجاري، وتوقعت المنظمة أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2 % فقط هذا العام؛ لأن حجم التجارة العالمي قد تقلص إلى النصف تقريبًا، وهو دليل يؤكد عدم وجود أي رابح في هذه الحرب حتى الآن.

ومن الواضح أن الرئيس الأمريكي لا يؤمن ولا يقبل بأن مكانة الولايات المتحدة وقوتها تفرض عليها التزامات تجاه الأسرة الدولية، بما في ذلك التزامات أخلاقية، وهو من هذا المنطلق يسعى إلى تفكيك الهياكل والقواعد التي بنيت عليها، بعد جهد جهيد، أسس التجارة والاقتصاد العالمي، وهو لذلك يعمل على التحلل والتنصل من نظام العولمة والكتل التجارية والتعددية ومنظمة التجارة العالمية وغيرها.

لا أحد له الحق في الاعتراض على ما ينادي به الرئيس الأميركي من إعادة العظمة والقوة إلى الولايات المتحدة، إن كانت قد فقدتها بالفعل، فأميركا قوية وغنية ستكون دون شك سندًا ورصيدًا للمجتمع الدولي. ولا يجوز لأحد كذلك أن يعترض على سعيه لتقوية وتعزيز المركز المالي والتجاري لبلاده، وتصحيح الخلل المزمن الذي يعانيه الميزان التجاري للولايات المتحدة، وإنعاش قطاع الطاقة وحث الشركات والاستثمارات الأميركية على تركيز أنشطتها في السوق الأميركي وغيرها من الأهداف المشروعة، إلا أن الجميع بما في ذلك قطاعات واسعة من مجتمع رجال المال والأعمال في أميركا تختلف معه في الأسلوب، إذ من الواضح أن الرئيس الأميركي في سعيه نحو تحقيق أهدافه اختار أن يستخدم قوته ونفوذه لإضعاف وشل منافسيه والقذف بهم إلى الوراء بدلًا من أن يركز على دفع الولايات المتحدة إلى الأمام، ولعله لا يرى انتصار الولايات المتحدة تجاريًا ممكنًا إلا بهزيمة منافسيها، وقد جعل الصين هدفه الأول.

ومن الواضح أيضًا أن الرئيس الاميركي يريد أن يُلغي النظام العالمي القائم الآن، ويريد أن يرسم نظام رأسمالي عالمي جديد تكون فيه الولايات المتحدة هي ليس فقط “العظيمة” و”القوية” و”الأولى” ولكن “المهيمنة” و”المسيطرة” بالقوة على مناطق ومصادر الطاقة وطرق التجارة وميادين الصناعة والتقنية والاختراع والابتكار في العالم.

الصين هي المنافس الأقوى اقتصاديًا وتأتي قوتها الاقتصادية في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة وتتجه نحو التربع على كرسي المرتبة الأولى، والخيار الذي اختاره الرئيس ترامب هو عرقلة وإجهاض نمو وصعود الصين، وقد قالها بكل صراحة ووضوح لقناة “فوكس نيوز” في يوم 19 مايو 2019 أن الصين لن تصبح أكبر قوة عظمى في العالم خلال رئاسته.

إن الحروب التجارية، كالحروب العسكرية التقليدية، تبدأ عادة بالمناوشات مثل فرض رسوم جمركية عالية وإقامة الحواجز والمقاطعة وما شابه، لكنها متى ما بدأت لا تعرف التوقف، وهذا ما هو حاصل الآن، فبعد أن بدأ الرئيس جولته الأولى برفع نسبة الضرائب على الصين وغيرها من الدول بدأت الحرب التجارية تدخل في منعطف جديد، وتشهد الآن تطورًا نوعيًا خطيرًا، وانتقلت من ميادين الصراع حول الفائض التجاري إلى قطاعات المال والتكنولوجيا، فجاء أول مؤشراتها أو أولى شراراتها أو قذائفها من خلال المواجهة الشرسة مع شركة هواوي الصينية العملاقة، وقد تكون هذه الشركة أول الضحايا في معركة إضعاف القوة التكنولوجية للصين، فقد أعلن ترامب في بداية الأسبوع الماضي رسميًا حظر شركة هواوي من العمل في الولايات المتحدة الأميركية بمختلف القطاعات وأيضًا منع الشركات الأميركية من التعامل معها، وقد وُصِفت هذه الخطوة بـ “الضربة النووية” في هذه الحرب.

وذكرت الحكومة الأميركية انها فرضت هذه القيود لتورط هواوي في أنشطة تتعارض مع الأمن القومي أو مصالح السياسة الخارجية، وطلبت من حلفائها عدم استخدام منتجات هذه الشركة؛ خشية أن تكون وسيلة لعمليات تجسس صينية.

وجاء رد الصين فوريًا  ليمدد المعارك إلى قطاع الطيران عندما طلبت شركة الخطوط الجوية الصينية “تشاينا ايسترن” يوم الأربعاء الماضي تعويضات من شركة “بوينغ” الأميركية بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدتها الشركة نتيجة توقيف طائراتها من طراز “بوينغ 737-ماكس” عن الخدمة وتأخر تسليم الطائرات التي طلبتها شركة الطيران المذكورة وذلك على أثر الكارثتين التين أدتا إلى تحطم طائرتين من النوع نفسه.

هذه التطورات تبرر المخاوف من أن يتصاعد النزاع بين الطرفين إلى حرب مالية واقتصادية وتقنية شاملة.

إن الجولة المتوقعة القادمة قي هذه الحرب هي لجوء الطرفين أو أحدهما لاستخدام أسلحة العملات وأسواق الصرف وأدوات الدين الحكومية، ويتزايد القلق من احتمال طرح الصين في الأسواق السندات الأميركية التي تملكها أو جزء كبير منها والبالغة 1,17 ترليون دولار، لكن يد الصين مكبلة في هذا الشأن، حيث إنها قد تتكبد خسائر فادحة، فإن هي حاولت بيع هذه السندات أو جزء كبير منها، فإن الولايات المتحدة يحق لها أن تعتبر تلك الخطوة مهددة لاستقرارها وأمنها القومي وستعمل على تجميد أو مصادرة الموجودات الصينية في أميركا بما في ذلك سندات الخزانة، وقد أدركت روسيا هذا الاحتمال عندما احتد الخلاف بينها وبين الولايات المتحدة، وبادرت بالتخلص تدريجيًا من معظم السندات الأميركية التي كانت تملكها خلال العام الماضي والبالغة 85 مليار دولار

فهل ستلجأ الصين ألى سلاح خفض سعر صرف عملتها الوطنية “اليوان”، كما كانت تفعل في السابق، هذا الاحتمال بعيد؛ لأنه سلاح ذو حدين بالنسبة للصين التي تعمل جاهدة على تعزيز قيمة ومكانة عملتها في احتياطات البنوك المركزية العالمية في إطار سعيها لتدويل عملتها والاستحواذ على حصة من نصيب الدولار الأميركي في الاحتياطات النقدية وتسويات التجارة الدولية، وفي المقابل، فإن الرئيس الأميركي يستطيع أن يخفض سعر الفائدة على الدولار، وفي هذه الحالة ستكون الصين من بين أكبر المتضررين؛ لأن ذلك سيؤدي إلى انخفاض سعر الدولار وتراجع العوائد التي تحصل عليها الصين من استثماراتها في السندات الأميركية، وسيستفيد ترامب أيضًا من هذه الخطوة بزيادة حجم الصادرات الأميركية على حساب البضائع الصينية.

وبالاتهامات الخطيرة التي وجهتها الولايات المتحدة لشركة هواوي الصينية والإجراءات التي اتخذتها ضدها بما في ذلك الأمر بإلقاء القبض على ابنة رئيسها التي تعمل مديرة الشؤون المالية للشركة إلى جانب العقوبات المدمرة التي فرضتها علىيها، فإن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين قد بلغت نقطة اللارجعة وتتجه دون شك إلى المزيد من التصعيد، هذا الوضع قد يقترب في خطورته بالنسبة لنا في دول مجلس التعاون إلى حالة التحدي والمواجهة العسكرية القائمة الآن في منطقتنا بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما يتطلب منا مراقبة الوضع عن كثب وأخذ الحيطة والحذر والتنسيق فيما بيننا؛ استعدادًا لأي تبعات أو تداعيات أو أضرار قد تلحق بنا نتيجة لصراع أكبر عملاقين في العالم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية