العدد 3898
الإثنين 17 يونيو 2019
banner
سفير للإمام المهدي المنتظر في البحرين ومهدي في السودان وآخر في السعودية! 2-2
الإثنين 17 يونيو 2019

تعرفنا بالأمس على شخص ظهر في مملكة البحرين في بداية العقد الثامن من القرن الماضي وادعى أن له اتصالا مباشرا بالإمام المهدي المنتظر، وأن الإمام عينه “سفيرًا” له وكلفه بالاضطلاع بمهمة تجديد الدين الإسلامي وإصلاح شؤون المسلمين وإعادتهم إلى جادة الصواب، وقد تمكن هذا المدعي من استقطاب أعداد متزايدة من الأتباع والمريدين قبل أن تنتهي قصته ويتوارى عن الأنظار.

وقلنا أيضًا إن هذا الشخص لم يكن الأول أو الوحيد من نوعه، فقد شهدت، بل ابتليت واكتظت الساحة الإسلامية السنية والشيعية منها بالكثير من أمثاله، أكثرهم ادعى أنه المهدي المنتظر نفسه، وكلهم ينتمون إلى الفئة التي لا تتردد عن توظيف الدين سياسيًا أو تتورع عن استغلال معتقدات وعواطف الناس البسطاء لتحقيق مآربها ومكاسبها السياسية والدنيوية، كما أن بعض المدعين قاموا بذلك نتيجة انحراف أو خلل فكري أو اضطراب نفسي أصابهم، أو حبًا في الظهور والتسلط أو بغية جني الأموال أو لكل تلك الأسباب والأهداف مجتمعة.

وسنتوقف اليوم بشكل عابر ومقتضب أمام حالتين فقط من حالات التقمص والادعاء بالمهدوية؛ نظرًا لأهميتهما وخطورتهما.

الأول منهما نجح في تحقيق هدفه وتسلَّم مقاليد الحكم، حدث ذلك قبل 176 عامًا عندما ولد في السودان الشقيق شخص اسمه محمد بن أحمد بن فحل، الذي التحق في صباه بأحد الكتاتيب وحفظ القرآن الكريم، وهو في سن مبكرة، ثم درس العلوم الدينية وتبحر في علوم الزهد والتصوف، في وقتٍ كان فيه المجتمع السوداني زاخرًا بالكثير من الطرق الصوفية؛ وبدأ يتنقل بين خلوات شيوخ التصوف حتى صار من بين أبرزهم، وذاع صيته واجتمع حوله عدد من الأتباع والمريدين.

محمد بن أحمد غير اسمه إلى محمد بن عبدالله المهدي لكي يُواطِئ اسمُه اسم النبي محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) واسمُ أبيهِ اسمُ أبي النبي محمد، استعدادًا وتهيئة لإعلان نفسه المهدي المنتظر، ثم اعتكف في مغارة لمدة 40 يومًا، خرج بعدها وقد أتته البشارة، إذ أعلن للمشايخ والفقهاء والأعيان أنه “المهدي المنتظر” الذي جاء ليملأ الأرض عدلًا ونورًا، وبدأ بالدعوة السرية لمهدويته، فآمن به كثيرون وأخذ أمره بالانتشار والتوسع، واندفع إليه الكثير من المريدين من كل مكان بالسودان للتبرك به.

وارتفع بدعوته من السرية إلى الجهرية في العام 1881م، عندما وجد الأرضية ممهدة وصالحة، والأوضاع والظروف مواتية، فقد كان السودانيون يرزحون ويئنون تحت وطأة ظلم وعنف واستبداد الحكم العثماني وارتفاع الضرائب وتفشي الفقر والرشوة والمحاباة والسخط والتذمر، وكانوا في ذلك الوقت مُتعطشين لتدخّل يدٍ إلهية تنقذهم من الوضع المتردي الذي يعيشون فيه؛ فصدق البسطاء والمهمشون منهم دعوة المهدي، ووجدوا فيه الأمل الوحيد، فالتفوا حوله مقنعين أنفسهم بأن الله قد بعث لهم المهدي الموعود ليخلّصهم من ألم السنوات الطويلة من ظلم وعناء.

فاستفاد “المهدي” من هذه الظروف والأوضاع واستثمر معاناة الناس ووجه خطابًا للسودانيين ورد فيه: “... جاءني النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ومعه الخلفاء الراشدون والأقطاب والخضر عليه السلام، وأمسك بيدي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسني على كرسيه، وقال لي: أنت المهدي المنتظر، ومن شك في مهديتك، فقد كفر. وأن التُرك كفار، وهم أشد الناس كفرًا؛ لأنهم ساعون في إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون”.

وقد كانت استجابة السودانيين لدعوة المهدي في غاية القوة والصلابة بحيث مكنته من مواجهة ومحاربة القوات الحكومية وهزيمتها والسيطرة على السودان.

وبعد عدة أشهر من فتح البلاد، تُوفِي الإمام المنتظر السوداني عن عمر ناهز 41 عامًا على أثر إصابته بحمى التيفوس، وهو مرض يسببه القمل والبراغيث، وذلك قبل أن يتسنّى له الاستمتاع بثمار فتوحاته واستكمالها، إذ كان قد وعد أتباعه ومريديه بأن المنية لن تدركه قبل أن يفتح مصر والشام والكوفة والحجاز وأقطار المسلمين كلها، وقبل أن يحقق لهم دولة “العدل والنور” التي وعدهم بها أيضًا، فكان وقع موته المبكر كالصاعقة عليهم كشفت حقيقة أمره وأسقطت قدسيته بالنسبة للكثيرين منهم.

الثاني كان أكثر تدميرًا وخطورة على الإسلام والمسلمين في المملكة العربية السعودية الشقيقة، حيث ظهر شخص اسمه جهيمان العتيبي، كان قد عمل سائق شاحنة في الحرس الوطني السعودي، ثم التحق بالجامعة الإسلامية بمكة المكرمة، وأصبح بعدها مهندس عملية أو كارثة ظهور “الإمام المهدي المنتظر” في مكة المكرمة عندما قاد مجموعة من المسلحين المتعصبين مكونة مما يزيد عن 200 فرد اقتحموا بيت الله الحرام في أول يوم من أيام شهر محرم الحرام من العام 1400هـ الموافق 20 نوفمبر 1979م.

كان المغفور لهما بإذن الله تعالى الملك سعود بن عبدالعزيز، والملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود قد بدآ بالتتالي في ستينات وسبعينات القرن الماضي عملية تطوير وتحديث الدولة والمجتمع السعودي مع المحافظة على أسسهما وأركانهما الإسلامية، وذلك بعد أن منّ الله على المملكة العربية السعودية بخيرات مداخيل النفط، فبدآ بإدخال التعليم النظامي والرعاية الصحية، والاهتمام بالأنشطة الثقافية والرياضية والفنية، وتطوير وسائل الإعلام بتقديم خدمات التلفزة، وخدمات الاتصال والتواصل المتاحة وقتها مثل التلفون والفاكس وما شابه، إلا أن جهيمان ومن على شاكلته لم ترق لهم هذه الخطوات التنويرية والتحديثية الأولية، وضاقوا ذرعًا بها واعتبروها بدعًا وأباطيل وخروجًا على القيم الدينية كما فهموها، وستؤدي، بحسب رأيهم، إلى فساد المجتمع، وكانوا يرددون “إن الدولة تسير في طريقٍ يلهي الناس عن صحيح دينهم، ولا يجعلهم خالصين لتعاليم الإسلام”، وذلك كله بهدف الإطاحة بالنظام القائم والاستيلاء على السلطة.

قرر جهيمان التحرك لمواجهة هذه التطورات والتصدي لها وإعادة المجتمع إلى دين الله، فانخرط في نشاط فكري دعوي مؤثر، وكوَّن جماعة راديكالية سميت بـ “الجماعة السلفية المحتسبة”، الذين تجمعوا حول فكرة “الإمام المهدي المنتظر” بعد أن أقنعهم بأن صهره محمد بن عبدالله القحطاني هو “المهدي المنتظر”، واتفقوا إثر ذلك على اقتحام الحرم المكي لمبايعته في باحة الحرم “بين البيت والمقام” باعتبار أن الآثار المروية عن المهدي تفيد بذلك.

وبالفعل، قاموا باقتحام المسجد الحرام والاستيلاء عليه بعد أن نجحوا في إدخال الأسلحة إلى داخله. وانتشروا في نقاط رئيسية في ساحات وممرات وأقبية ومنارات الحرم، وهو ما سمح لهم بالسيطرة الكاملة على المكان، وإطلاق النار على قوات الأمن السعودية خارج الحرم، مما أدى إلى اندلاع الاشتباكات المسلحة بينهم والقوات السعودية. ولإحكام قبضتهم قاموا بإغلاق أبواب الحرم المكي بعد الانتهاء من صلاة الصبح، وأعلن جهيمان أمام آلاف المعتمرين والمصلين الذين احتجزهم أن صهره محمد عبدالله القحطاني الواقف بجانبه، هو المهدي المنتظر وهو مجدد الدين، وأنه “خرج ليملأ الدنيا عدلا بعدما ملئت جورا”.

المهدي المنتظر المزعوم محمد القحطاني، على الرغم من دراسته الجامعية حتى السنة الأخيرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إلا أنه كان يفتقر إلى قوة الشخصية ويفتقد الكاريزما والخصال القيادية التي كان يتمتع بها جهيمان، وقد بايعه جهيمان وجماعته في يوم اقتحام الحرم كما أرغم بقوة السلاح عشرات الآلاف من المصلّين والمعتمرين على مبايعته إماما للمسلمين واجب الطاعة والاتباع، وحذر جهيمان بإطلاق الرصاص على كل شخص يحاول الفرار، لكن محمد القحطاني لقي حتفه في اليوم الرابع من الاحتلال! مما يخالف النص الذي اعتمدت عليه العملية من أساسها.

وطوال مدة الاستيلاء على الحرم التي دامت أسبوعين، ظل جهيمان واتباعه المدججون بالسلاح متمترسين ومحتمين داخل الحرم المكي، أطهر وأقدس مقدسات المسلمين، ومسيطرين عليه ومحتجزين عددا كبيرا من المعتمرين والمصلين ورافضين الاستسلام، مما اضطر قوات الأمن في النهاية إلى اقتحام باحة الحرم المكي والسيطرة على الموقع وتطهيره.

سلم جهيمان نفسه، وأعطى أوامره بإلقاء السلاح لمن تبقى من أتباعه، فتم القبض عليهم وتخليص وتطهير المسجد الحرام وتحرير الرهائن، وقد أعدم جهيمان وأتباعه.

 

وخلفت هذه الجريمة النكراء مئات من الجرحى والقتلى من رجال الأمن والمنشقين والمحتجزين والأبرياء سقطوا في هذه العملية من بدايتها حتى نهايتها، والتي دمرت أجزاء كبيرة من الحرم المكي تطلب إصلاحها شهورا.

لقد كانت جريمة جهيمان ومهديه وأتباعهما أكبر وأسوأ كارثة حلت بالبيت الحرام، وكان وقعها كالزلزال الذي هز أركان العالم الإسلامي، كما كان لها تداعيات وارتدادات سلبية خطيرة، من بينها المساهمة في نشر بذور التطرف والعنف والإرهاب وإلهام فكر التيارات والحركات والمنظمات الإرهابية كالقاعدة وغيرها، وقد ساهمت، دون شك، في صناعة تيار جديد أشد خطورة وفتكا، وهو تيار “السلفية الجهادية”.

لقد أدركت القيادة السعودية حجم وعمق التأثيرات التي تركتها هذه الحركة في المجتمع السعودي، وما حملته من أبعاد وتداعيات مما اضطرها إلى العمل على محاولة احتواء هذه الإفرازات خصوصًا، وأنها جاءت في فترة كان نشاط التيارات الإسلامية السياسية في قمة تألقه وفي مرحلة حبلى بالتحديات، حيث شهدت المنطقة في تلك الفترة جملة من التحولات السياسية والتطورات المفصلية والمصيرية منها؛ توسع حركة الإخوان المسلمين في مصر وخارجها، وقيام الثورة الإسلامية التي أطاحت بحكم الشاه في إيران، والتي تسعى لتصدير أفكارها لدول المنطقة، إلى جانب الغزو الشيوعي السوفييتي لأفغانستان واستنفار المجاهدين المسلمين لدحره، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد وغيرها.

ومن بين أهم ارتداداتها، انبثاق ونمو ما عُرِف بـ “تيار الصحوة”، وهي حركة فكرية سلفية متشددة استغلت حادثة الحرم لتجعل الدولة السعودية رهينة لفكرها المتشدد وتفرض على المجتمع نظامًا اجتماعيًا طابعه الانغلاق والتعصب، ومن أخطر ما حققه هذا التيار اختراق جهاز التعليم والسيطرة على المجال الدعوي في المملكة.

ولمدة ثلاثين عاما ظل المجتمع السعودي يرزح تحت وطأة وسيطرة هذا التيار، إلى أن تولى السلطة ومسك بزمامها ملك الشجاعة والحزم سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وبمساندة ولي عهده الشاب الأمير محمد بن سلمان، فوضعا حدًا لهذه السيطرة وشرعا في بلورة وقيادة حركة إصلاحية تصحيحية، في مواجهة الأفكار التكفيرية المتطرفة، وتكسير القيود التي كبلت المجتمع وعرقلة نمو وتطور البلاد، وكان ولي العهد مصيبًا واضحًا صريحًا عندما قال بالحرف الواحد إن “السعودية لم تكن كذلك قبل العام 1976، السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد العام 79 لأسباب كثيرة، ليس هنا مجال ذكرها، لم تكن السعودية بهذا الشكل في السابق، نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه؛ الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان والتقاليد”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية