العدد 3918
الأحد 07 يوليو 2019
banner
مع صديقنا وحليفنا الرئيس ترامب
الأحد 07 يوليو 2019

يقول أبو الطيب المتنبي:

ومن نكدِ الدنيا على الحُرِّ أن يرى ... عدوًا له ما مِن صداقته بُدُّ

يكاد هذا القول أن ينطبقَ على علاقة دول مجلس التعاون الخليجي عمومًا، وثلاثي المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة بشكل خاص بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي الحقيقة، فإنّ مثل هذا الشعور ينطبق أيضًا على علاقات الكثير من الدول في شرق العالم وغربه بالرئيس ترامب. وإذا كانت كلمة “عدو” كما جاءت في شعر المتنبي تعتبر شديدة وقاسية ومبالغًا فيها، بالنسبة إلى دول مجلس التعاون، فإن حالة فقدان الود والثقة والصدق والإخلاص لاشك واضحة وبيِّنة على خارطة علاقات هذه الدول بالرئيس ترامب.

وعلى الرغم من ازدياد حدة الضغوط والتهديدات الأميركية على إيران في الآونة الأخيرة، فقد استُنفِرت شكوك ومخاوف دول مجلس التعاون قبل أيام عندما صرح ترامب بأنه مستعد لأن يعقد صفقة مع إيران بشأن السلاح النووي فقط، وكان ترامب قد بعث برسالة مماثلة من قبل إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي من خلال رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي جاء فيها: “لا يمكنك امتلاك أسلحة نووية، وبخلاف ذلك، يمكننا الجلوس وعقد صفقة”، كما أكدت ذلك العديد من المصادر الموثوقة، أي أن الرئيس ترامب على استعداد ليضرب بعرض الحائط قلق حلفائه وأصدقائه في دول المجلس ومطالباتهم، والتي أهمها ضمان توقف إيران عن التدخل في شؤونهم الداخلية والتخلي عن مطامعها في التمدد والتوسع في المنطقة.

ومن الواضح أن ترامب المعروف بتراجعاته وتقلباته على استعداد للتراجع والتخلي عن المطالب التي وضعها بعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بما في ذلك قائمة مكونة من 12 مطلبًا يجب على النظام تنفيذها قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق جديد. ما يهمه الآن هو منع إيران من امتلاك السلاح النووي؛ لأن ذلك يمثل الهم الأكبر بالنسبة إلى (العزيزة) إسرائيل.

خلاصة القول، لا يجب وضع الثقة التامة والاعتماد على ترامب أو حتى على غيره، وليس من الحكمة وضع كل البيض في سلة واحدة، ترامب بشكل خاص إنسان تاجرٌ قبل أن يكون سياسيًا، وهو يفاخر بذلك، وإذا اجتمعت صفات التجارة بالسياسة، فإن كلَّ القضايا تصبح “بضائع” معرضة وقابلة للمساومة ومعروضة للبيع.

ولنتذكر دائمًا أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب كان وما يزال يقول ويردد بكل وضوح وصراحة بأن بلاده كانت مظلومة ومستباحة وكانت ضحية و”ملطشة” نتيجة لسياسات أسلافه من الرؤساء السابقين الذين وصفهم مؤخرًا بالمغفلين الذين لم يأخذوا في الاعتبار مصالح الولايات المتحدة، وأن بلاده نتيجة لذلك صارت عرضة للاستغلال ولاستنزاف الأموال والأرواح، وتم غزو وإغراق أسواقها واختراق حدودها من قبل العديد من دول العالم في أميركا اللاتينية وأوروبا وآسيا. وكان وما يزال لدول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، النصيب الأكبر والحظ الأوفر من هذه الاتهامات والمغالطات التي تحولت إلى إهانات وأدوات للتهديد والترهيب والابتزاز.

وكان ترامب، وما يزال، يكرر أنه لولا الولايات المتحدة لما كان لنا وجود، وأنه ليس لدينا شيء سوى الأموال، وأن أميركا حاربت من أجل بقاء أنظمتنا ودولنا، مدعيًا أن الولايات المتحدة أنفقت في سبيل ذلك أكثر من 7 تريليونات دولار في 18عامًا من دون أن تحصل على شيء في المقابل، وأنها ليست مستعدة تحت إدارته للاستمرار في هذا النهج، فمن الآن فصاعدًا يجب علينا أن نسدد الفواتير المزعومة وندفع له بسخاء، ليس فقط قيمة الأسلحة المكلفة الباهظة الأثمان التي نشتريها من السوق الأميركية بانتظام وطواعية، بل أيضًا قيمة خدمات الجنود الأميركان الذين سيقومون بحمايتنا والدفاع عنا كما يقول! مع أن هؤلاء الجنود يقومون في الواقع بصون وحماية النفوذ والمصالح الأميركية في المنطقة، لكن ترامب يقول لنا إذا أردنا البقاء علينا أن ندفع! ترامب لا يريد أن يكون رئيسًا لأقوى دولة في العالم تفرض عليها مكانتها ومصالحها أيضًا التزامات ومسؤوليات تجاه المجتمع الدولي، بل إنه يريد أن يكون تاجرًا حاذقًا ويحول أميركا إلى سوق لتصدير المرتزقة أيضًا، لا يرضيه أن نبقى زبائن وروادا ملتزمين ومخلصين للسوق الأميركية نشتري منها كل شيء، بما في ذلك الأسلحة والطائرات والسيارات وكافة المنتجات والخدمات الأميركية، بل إنه يريد منا أيضًا أن نتسوق في سوق أقرب إلى سوق النخاسين التي تُباع فيها أرواح الجنود الأميركان الذين سيرسلون للدفاع عن كل من يستطيع دفع الثمن.

البعض يقول إن هذا هو الوجه الحقيقي لأميركا، وأن ترامب لا يختلف كثيرًا عمن سبقوه من الرؤساء الأميركيين، وهو بكل وضوح وصراحة يعكس واقع السياسة الأميركية كما عهدناها، ولكن بصوت أعلى وبأسلوب ونبرة أكثر حدة وقسوة من أي من الرؤساء الذين سبقوه، وأنه على رأس دولة بُني مجتمعها في الأساس على الحرب والعنف والقتل منذ أن تمت تصفية وإبادة الملايين من سكانها الأصليين؛ ولذلك فإنها انفقت أكثر من 3000 مليار دولار في الأربعين عامًا الماضية كتكلفة لحروبها خارج حدودها، وأن يدها أصبحت ملطخة بدماء أكثر من 20 مليون قتيل منذ سنة 1945 من مختلف دول العالم، بما في ذلك دول العالم الإسلامي.

وهم يقولون أيضًا إن ترامب في الواقع يعبر عن فكر الشعب الأميركي ويعكس موقفه، فهو شعب يوصف في أحسن الأحوال بأنه “ناييف naive”، وهذه الكلمة لا تعني أنه ساذج، بل تعني “على نياته”، غالبية الشعب الأميركي لا يهمهم مصير القدس أو بغداد أو حتى لشبونة، والكثير منهم لا يعرفون أين تقع هذه المدن، ولا يكترث الكثيرون منهم بأي أوضاع أو تطورات تحدث خارج نطاق مجتمعاتهم، ما يهم المواطن الأميركي أكثر الوضع الاقتصادي في بلده، وفرص العمل المتوفرة، وكم دولارا سيجني بنهاية الأسبوع؟، وكم سيدفع من ضرائب؟ وما شابه من الأمور والهموم والقضايا المعيشية، وقد عرف ترامب كيف يخاطب هكذا شعب في هذه المرحلة بالذات، وليس ثمة مغالات في القول إن غالبية الشعب الأميركي ربما ما يزالون يحبون ترامب ويؤيدونه ويكاد البعض أن يجزم بأنه سيعاد انتخابه لدورة ثانية، وخصوصًا عندما ينجح في تحقيق ما وعدهم به، من استعادة عظمة الولايات المتحدة وخلق مزيد من فرص العمل، واستعادة الوظائف التي ضاعت بسبب سياسات من سبقوه، وتصحيح الاختلال في الميزان التجاري ومعالجة العجز الذي تعاني منه الميزانية الاتحادية.

وقد يكون هذا الرأي فيه جزء أو الكثير من الصحة، لكنني أعتقد بأن هذه ليست أميركا الحقيقية التي نعرفها ونتطلع إليها، وأميل إلى الرأي الذي يقول بأن أميركا دولة بنيت على قاعدة من المبادئ والقيم، وأن ترامب ظاهرة طارئة من سقطات الحراك الديمقراطي، وأن النظام الديمقراطي الأميركي كفيل وقادر على التصحيح وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، وأن الشعب الأميركي بالفعل نقي السريرة وقد يكون على نياته Naive إلى حد ما، لكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يقرأ الأرقام بسهولة، ويدرك ويرى الحقائق، وهو واعٍ ومطلع، ولا غرابة في ذلك فهو مفجر ثورة المعلومات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وإنه قد حان الوقت ليدرك فيه الشعب الأميركي الحقيقة، ويكتشف أن رئيسه قد فشل وأخفق في تحقيق ما وعدهم به حتى الآن، فها هي الأرقام التي نشرت مؤخرًا تثبت أن العجز التجاري الأميركي مع بقية دول العالم قد ارتفع إلى رقمٍ قياسي تاريخي سنة 2018 ليبلغ 891 مليار دولار مقارنة بالرقم السابق عن سنة 2017، والذي بلغ 795 مليار بدلًا من أن ينخفض بحسب ما وعد، بل إن السنتين الأوليين من عهده تعتبر الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، من ناحية التجارة.

في هذا الصدد يشار بالتحديد إلى أن ترامب خسر الرهان على تصحيح الاختلال في ميزان المبادلات التجارية مع الصين بشكل خاص، حيث بلغ العجز في سنة 2018 ما مقداره 419 مليار دولار، وهو رقم قياسي يتجاوز الحصيلة الكارثية لسنة 2017، والتي بلغت 375 مليار، فالنتيجة جاءت حتى الآن على عكس ما وعد ترامب فقد تفاقم العجز التجاري الأميركي.

وبالإضافة إلى العجز التجاري، فقد تعمّق العجز في الميزانية الاتحادية (779 مليار دولار لسنة 2018 مقابل 666 مليار سنة 2017)، وارتفعت النفقات العسكرية بشكلٍ مذهل، حيث إن ميزانية وزارة الدفاع لسنة 2019 هي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة وقد وصلت إلى 686 مليار دولار، كما وصلت الديون الاتحادية إلى رقم قياسي، حيث بلغت 22175 مليار دولار. أما الديون الخاصة بالشركات والأفراد، فهي تصيب المرء بالدوار، إذ بلغت 73000 مليار دولار.

إن قادتنا في دول مجلس التعاون لاشك يدركون بأن عليهم أخذ الحيطة والحذر في تعاملهم مع الرئيس ترامب، فهو واضح وصريح في ناحية واحدة فقط؛ وهي أنه لم يقل قط إنه يرغب في فرض القيم الأميركية على البلدان الأخرى أو ينشر الديمقراطية أو يحمي حقوق الإنسان كما كان يدعي سابقوه، بل قال بوضوح وصراحة إنه يريد مزيدا من الأموال، وأنه يحمي المصالح الأميركية أولًا وأخيرًا. ويدركون أيضًا أن ترامب شخص لا يجهل ما تتطلبه اللباقة والكياسة الدبلوماسية، لكنه لا يتردد عن إهانة وإحراج حتى أقرب أصدقائه وحلفائه في تصرفاته الشخصية وتصريحاته ورسائله عبر “الانستغرام” وقراراته الارتجالية. وفي تعامله مع الآخرين، فإن ترامب يتعمد تصغيرهم وتحجيمهم وتقزيمهم كعملية جس نبض تمهيدًا للانقضاض عليهم متى ما اقتضت الضرورة. وقد أدخل الرئيس الأميركي ترامب أدوات وأساليب جديدة في السياسة الأميركية، منها ما يسمونه في الشام بـ “أسلوب الأباضاي” الذي ليس لدينا في الخليج تعريف مشابه له، وهو كغيره ممن سبقوه من رؤساء أميركا، أو ربما أكثر بقليل لا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه كصديق وفي أو كحليف أو شريك.

وقادتنا لاشك يدركون أيضًا أن المصلحة والمصلحة فقط كانت، وستظل هي العامل الحاسم الذي يحكم العلاقات بين الدول، ولذلك فإن أميركا أكثر من أي دولة أخرى تخذل وتتخلى عن حلفائها وأصدقائها في الوقت الذي تراه مناسبًا، وأن آخر مثال على ذلك كان الرئيس حسني مبارك، وعندما تقتضي مصلحتها، فإنها تطيح بأنظمة شرعية بحجج مختلفة أبرزها نشر ودعم الديمقراطية، وتسقط أنظمة ديمقراطية أيضًا عندما تقتضي مصلحتها ذلك، ولا يحتاج قادتنا إلى الذهاب بعيدًا وما عليهم سوى النظر إلى ما حصل في إيران، فبعد عزل الشاه رضا بهلوي في العام 1941 ونفيه إلى جنوب إفريقيا من قبل البريطانيين والسوفييت بعلم وموافقة الولايات المتحدة بسبب ما أبداه من تعاطف مع الزعيم الألماني أدولف هتلر تم تنصيب ولده محمد رضا بهلوي بدلا منه، وفي العام 1953 أطاحت المخابرات الأميركية بحكومة رئيس الوزراء الدكتور محمد مصدق المنتخب ديمقراطيًا، وأعادت تثبيت محمد رضا بهلوي شاهًا لإيران وساندته حتى العام 1979عندما تخلت عنه ومهدت الطريق بالتعاون مع فرنسا للإمام الخميني للعودة إلى إيران وتولي السلطة، ولنقرأ نصيحة الشاه محمد رضا بهلوي التي نقلها أنيس منصور، إلى الرئيس الراحل أنور السادات عندما وجه رسالة له جاء فيها: “أخي أنور السادات لا تثق بهم.. فإذا قبلوك اليوم قتلوك غدًا.. احترس منهم.. إن موقفهم مني درس يجب ألا ينساه أحد”.

ولأكثر من 40 عامًا منذ قيام الثورة الإيرانية واحتجاز الرهائن الأميركيين في سفارة الولايات المتحدة في طهران ورؤساء أميركا يهددون ويتوعدون بضرب إيران، ولكن دون نية حقيقية، مما جعل الشك يساورنا أو القناعة تترسخ في أذهاننا بأن الولايات المتحدة في واقع الأمر ترغب في إبقاء إيران كمصدر تهديد لدولنا وتستغل ذلك وتستثمره لابتزازنا وبيع مزيد من أسلحة وأنظمة الدفاع علينا ودفعنا إلى أحضان إسرائيل للتحالف معها لمواجهة عدو مشترك، لذلك فقد كان وما يزال من مصلحة الولايات المتحدة أن يبقى الوضع كما هو عليه، وأن تبقى إيران مستمرة في سياستها الحالية تجاه جيرانها، فهل سيتغير الموقف الآن بعد أن أصبحت أميركا قلقة فقط مما قد تشكله إيران من تهديد لإسرائيل؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .