العدد 3918
الأحد 07 يوليو 2019
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
ترامب يعبر الخط الفاصل بين الكوريتين
الأحد 07 يوليو 2019

لم يكن عبور الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخط الفاصل بين الكوريتين يوم الأحد الماضي حدثا عاديا للدرجة التي دفعت بعض الصحافيين الأميركيين وكبرى القنوات الإخبارية الأميركية للقول إن “ترامب يصنع التاريخ”..

مراسلة المحطة الإخبارية الأميركية المعروفة سي إن علقت على الحدث الأميركي - الكوري بالقول “إنها وقبل 24 ساعة، منذ أن أطلق ترامب تغريدته، لم أكن أتوقع منه أن يفعلها، إلا أنني ولحظة عبور ترامب الخط الفاصل والمشي خطوات داخل الحدود الكورية الشمالية، أنها لحظة قد اختلط لدي فيها الحقيقة بالخيال والممكن واللا ممكن”...

صحيح أن كلا الرئيسين الأميركيين السابقين كارتر وكلنتون قد فعلها من قبل لكن دون وجودهما في كرسي الرئاسة.

ولكن يبقى التساؤل قائما فيما إذا كان هذا الفعل الرمزي قادرا على طي عقود من الخلاف/‏ الخلافات المتراكمة بين البلدين تجاوزت السبعة عقود أو أن تقود هذه الزيارة إلى تجاوز عمق الخلاف الكوري - الأميركي... فكوريا الشمالية لا تتحرك هنا لوحدها، فما يربطها من علاقات إستراتيجية تاريخية مع الصين وروسيا يخلق قدرا مهما من التوازن والدعم في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية. كما أن الرئيس الكوري الشمالي كيم، كما يبدو، لا يتخذ قرارات حاسمة في هذا الشأن دون المرور بالحزب الحاكم وإدارة السياسية في بلاده. وهي إدارة كما يبدو ليست خارج الحدث السياسي العالمي، وهي رغم عزلتها العالمية متابعة جيدة للسياسة الأميركية وتبعاتها العالمية... ومع ذلك فإنها زيارة قد تُرخي بعض الشيء قدرا من الشد في العلاقة بين البلدين كما اللقاءين السابقين إلا أنها لن تقود سريعا إلى توقيع اتفاق أميركي - كوري شمالي..

يبدو أن الرئيس الأميركي ترامب وفي هذه المرحلة التي تقترب من التحضير للانتخابات الرئاسية الأميركية بحاجة لاختراق سياسي خارجي كبير مع دول وصفت في الإعلام الأميركي ومن قبل الإدارة الأميركية بكونها دول تسلطية ومارقة.

كما أن من الواضح أن سياسة الإدارة الحالية قائمة على تصعيد الخلاف مع إحدى الدولتين كوريا الشمالية أو إيران وإيصاله لحافة الصدام، وتدخل طرف أو أطراف ثالثة مقبولة من هذه الدول لأحداث الاختراق...

لقد نجحت هذه الإستراتيجية في الحالة الكورية الشمالية وتنظيم اللقاء التاريخي في العام الماضي بين الرئيس الأميركي والرئيس الكوري الشمالي.. وبدا الأمر وكأننا في طريق طي الخلاف الأميركي - الكوري الشمالي سنغافورا. إلا أن لقاء فيتنام في شهر فبراير الماضي قد أسفر عن لا شيء، بل إن الإدارة الكورية الشمالية قد أعلنت بعدم رغبتها في التعامل مع شخص وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الذي كما يبدو كان يضغط نحو الحصول على تنازلات كورية شمالية أساسية فيما يخص سلاحها النووي دون تقديم تنازلات مقابله قد يكون أولها مسألة رفع العقوبات الأميركية المفروضة عليها، الأمر الذي أنهى اجتماعهما في فيتنام دون الخروج بنتائج معلنه. أو بالأحرى فشل هذا الاجتماع للوصول إلى اتفاق بشأن المسائل الخلافية الأساسية، رغم تقديم كلا الطرفين تفسيرهما المختلفين لفشل هذا الاجتماع، والذي كما يبدو قائما على وقف كلي للنشاط النووي الكوري الشمالي مقابل رفع العقوبات الأميركية عنها كما هو المطلب الأميركي أو رفع جزئي للنشاط النووي في مواقعه الرئيسة مقابل رفع الحصار.

من هنا جاء اللقاء الأخير سريعا ومتجاوزا الترتيبات البروتوكولية الرسمية لإعادة قدر من الحرارة في علاقة اعتُقِد أنها قد انتهت باجتماع هانوي (فيتنام) في نهاية شهر فبراير من هذا العام.

لقد بدا الرئيس الأميركي محتاجا لاختراق سياسي خارجي مهم مع إحدى الدولتين كوريا الشمالية أو إيران يوظفه في الانتخابات المقبلة، وهو اختراق قد لا يحدد شروطه كاملة الرئيس الأميركي ترامب بقدر ما هي قرارات الدولة العميقة في الإدارة الأميركية، وهي إدارة لها شروط ومتطلبات قد لا تكون في عجالة لتجاوزها أو تجاوز عناصر تحققها الرئيسة في أي اتفاق متوقع مع كوريا الشمالية.

من هنا بدا الرئيس مرنا مع روسيا ومتنازلا في موقفه من الصين وحروبهما التجارية والتي كما يبدو لن تقف أثارها على الصين بل ستنسحب هي الآخر على الداخل الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية إن لم تكن قد بدأت بالفعل تأكل في أوضاعها الاقتصادية..

وبالمقابل فقد بدا للبعض أن القرار في كوريا الشمالية ونتيجة لطبيعتها الشمولية التسلطية فردية كما هو حال معظم البلاد في منطقتنا العربية، إلا أن ما خرج به المراقبون أن الطبيعة الفردية البائنة للدولة الكورية الشمالية لا يعني أن قراراتها المصيرية الخارجية فردية بالكامل بقدر كونها قرارات يتم طبخها داخل مؤسسة الحزب الحاكم أو بالأحرى مؤسسة الدولة - الحزب. فالقدرات النووية والتسليحية الكبيرة التي راكمتها كوريا الشمالية على مدى السنوات السبعين الماضية الممتدة منذ الحرب في شبه الجزيرة الكورية حتى الآن ليس بالمقدور التنازل عنها كلها وسريعا لصالح اتفاق نووي مع الولايات المتحدة الأميركية لم يعد مضمونا الاستمرار فيه. فهي - أي القدرات النووية والتسليحية - أعطت هذه الدولة ونفوذ وقوة في محيطها الإقليمي ليس من السهل أن تتنازل عنهما سريعا ودون ترتيبات أمنية إقليمية مضمونه وقابلة للاستمرار والقبول من جميع القوى الإقليمية ودون مقابل معونات اقتصادية سخية وذات ديمومة.

من الناحية الأخرى فإن الولايات المتحدة الأميركية أو قياداتها السياسية قد تلوح بالحرب أو باستعراضاتها إلا أنها لن تجازف بالانزلاق نحو ذلك... فكلفة احتلالها لأفغانستان والعراق كانت كبيرة من الناحية الاقتصادية والبشرية والسياسية لا أعتقد أنها راغبة في تكرارها. وأعتقد أنها تدرك أن سيناريوهات أي عمل عسكري خاطف قد يتحول لمشهد قد يطول كثيرا وتزداد تعقيدات القدرة على الخروج منه، مهما امتلك الطرف الأميركي عناصر السيطرة والسيادة فيه.

ويحدث كل ذلك في مجتمع باتت حدة الانقسام السياسي والعرقي فيه متصاعدة كما أن حروبه التجارية عقدت من أزمتها الاقتصادية، وهي أزمة قد تزيد من مآزقه الأخرى مع أي انزلاقه جدية نحو صراع مسلح في شرق آسيا مع كوريا الشمالية أو في الخليج مع إيران. وهو الأمر قد يرغب فيه بعض صقور الإدارة إلا أنه ليس ضمن أجندة الرئيس ترامب ذاته.

وإذا ما كان الكوريون الجنوبيون وآخرين مثل الصين وروسيا قد شجعوا على لقاء أو لقاءات بين ترامب والرئيس الكوري الشمالي، فإن أيا من المحيط الإقليمي وأصدقاء إيران وأميركا معا إضافة لطبيعة التكوين السياسي لبعض القيادات الإيرانية يجعل من القدرة على فتح نافذة لقاء مع أميركا معطلة حتى إعلان آخر..

خلاصة القول قبل 4 سنوات من الآن وقّعت الولايات المتحدة الأميركية وإيران اتفاقا دوليا متعدد الأطراف تنهي بموجبه إيران برنامجها النووي، وفي المقابل تعمل أميركا على رفع عقوباتها الاقتصادية المفروضة على إيران منذ ثمانينات القرن الماضي... وتلخص مجلة الفورين أفيرز الأميركية في مقال لها في أواخر الشهر الماضي معضلة هذا الاتفاق بالقول: إن الاتفاق قد لا يكون قادرا على إنهاء انعدام الثقة القائمة بين البلدين، كما أنه من غير الممكن له كذلك أن يحل الاختلاف الدائم حول السياسة الخارجية لإيران (أو تدخلاتها) في المنطقة، إلا أنه رغم كل ذلك، فإن خلق آلية مهمة للتفاعل الدبلوماسي كانت كل هذه الدول والأطراف بحاجة إليها، ولذلك وجد فيه أنصار الاتفاق، من الدول والأطراف القوية الحاكمة للعالم آلية مهمة لتجنب الحرب، وإن خروج الولايات المتحدة الأميركية منه لا يعني نزوعها نحو الحرب، رغم تصاعد نبراته. فهو اتفاق مازال قائما رغم خروجها.. إن البحث عن البديل قد لا يكون ممكنا سريعا وفي ظل انسداد كل آفاق الحوار أو اللقاء المفتوح بينهما. إن بديل الاتفاق هو اللا اتفاق وهي حالة تطرب لها أطراف وجماعات في الداخل الإيراني كما هو في خارجها إلا أن ذلك لا يضبط سلوكها النووي كما هو السياسية. إن إعادة تأهيل غيران في المجتمع الدولي يحتاج لبعض الزمن وهو ما لم يصبر عليه البعض... فهل ينجح الأوربيون في تحقيق ذلك؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية