العدد 3925
الأحد 14 يوليو 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
حنين الضحية للمسلخ (23)
الأحد 14 يوليو 2019

المازوخية هي مصطلح (بالإنجليزية: masochism)، وهي تمتع وتلذذ الضحية بالجلاد، وكلما عذبها زاد تمتعها. إنها قصة الرافضين من العشاق الخروج من عبودية العشق القاتلة. يقول المتنبي: فإن قليل الحب بالعقل صالحُ.. وان كثير الحب بالجهل فاسدُ) تتزاحم على باب مقالي أسئلة كثيرة من المتابعين، لماذا كل هذا الاهتمام بالتنظير عن خطورة الوقوع في أفخاخ وحوش الحب؟ ما يصلني من رسائل تلح عليَّ الاستمرار في النزف؛ لان الضحايا بعدد حبات الرمل. إنها ظاهرة مخيفة، فإذا كانت هناك مواسم لصيد الأسماك، فأسماك الزينة البشرية ليس لها مواسم للاصطياد، فكل العام موسم صيد، وكثير من القلوب عالقة في الشباك، ففي كل خمسة أشخاص يوجد واحد فقط ربما لم يقع في شباك أسماك قرش الحب، إنها لعبة دامية! كثر عضاضو الرقاب بحثا عن دماء مال في بحر الاصطياد باسم الحب. وإن أخطر من العدو الواضح العدو على صورة حبيب يقول المتنبي:

ومِن العداوةِ ما ينالُكَ نفعُه

ومِن الصداقةِ ما يَضُرُّ ويُؤْلِمُ

لا عليكم من البهارج، والابتسامات المصطنعة الموزعة في السوشل ميديا، والعلاقات التي تلتقط الصور الفوتغرافية، فعلاقاتنا لا تعدو أن تكون إلا أستوديو كبير، نلتقط قيه صورا لخيباتنا العاطفية المذابة على أطراف العدسات لنفرغها في (البومات) وجعنا، لتكون ذكرى لأضرحة ألم على شكل صور ملونة. يقول نزارقباني (ليس كل شيء في القلب يقال، لذلك خلق الله التنهيدة، الدموع، النوم الطويل، الابتسامة الباردة، ورجف اليدين). نحن تعساء في السياسة، وفاشلون في صناعة المدنية، وبناء الحضارة؛ لأننا تعساء في علاقتنا العاطفية وعلاقاتنا العائلية، وعلاقاتنا في العمل، والمجتمع والجامعة والجامع.. نمشي بعقد سيكولوجية، وكل يمارس استبداده على مدى حجم الضحية، والقضية نسبية. يقول هشام شرابي في وصف علاقاتنا البطريركية، إنها أبوية فاقعة مستبدة والضحايا من ضحايا يولدون. تقول مستغانمي ما مضمونه “عندما لا يجد الإنسان العربي من يتكفّل بتنغيص حياته، وخنق أنفاسه، يتولّى بنفسه البحث عن منغص، حتى في الحب لا يبحث عن حبيب عادل، بل عن حبيب طاغية جبّار يسلّمه روحه كي يفتك بها. مُصرا على العيش أسيرا في معسكرات الاعتقال العاطفي”. فـ “فامبايرز” مصاصو دماء العلاقات العاطفية كثر، وأصبح الشباك الواحد لمصاص واحد فائض بالسمك الغبي، وقد تصطاد سمكة لاصطياد بحر بأكمله. قال بسمارك يوما: “حين أضع الطعم لصيد الغزلان، لا أطلق السهم على أول ضبي يأتي ليتشممه، بل انتظر إلى أن يأتي القطيع بكامله). افتحوا القلوب ستجدوا أننا معضوصون إلى حد العضم. هناك عضاض وظائف، وهناك عضاض مال، وهناك عضاض قلوب. ولن نشفى لأننا نكابر إما بنرجسية ثقافية أو انتفاخ منصب أو تكدس مال أو شهوة شهرة وشهية امتداد واستعمار قلب.. نتوارى خلفهم، مغلفين في صناديق عقل الباطن.

هذا الاكتضاض على المقاهي، والمولات والعلاقات الفاستفودية تعكس وجود فشل حب عام، يعكس سيكولوجيا، على اتساع ظاهرة الهروب من الواقع، والالتفاف على آلام مخفية، وقلوب محطمة أما من اكتئاب سياسي أو انهيار عاطفي أو تهلهل علاقات أسرية منهوكة التعب كجندي هارب من الحرب. يقول روبرت جرين في كتابه الرائع كيف تمسك بزمام السلطة، واعتبر الكتاب مكملا لمكيافيللي: “السطوة أشبه بالمرأة الفاتنة سيئة السمعة، يطلبها الجميع، ويتبرأ منها الجميع”. إنها لعنة المدنية، وكما يقول على الوردي: لا يمكننا إذا قبلنا بالمدنية إلا القبول بكل شروطها، وأول الشروط: الأنانية، والقلق، وغياب الاطمئنان. نحن وحوش في علاقاتنا في العمل، والمؤسسات التي أصبحت أشبه بغابة، كل شخص يحفر للآخر. وقطاع طريق في التحرش بالأديان، والنبش في قمامة التاريخ لاصطياد القنابل الطائفية لإطفاء ضمأ انحطاط داخلي مشبع بتأليب الناس على بعضها. نواري سوآتنا بأوراق التوت المصطنعة من ابتساماتنا المكتنزة بدم المصداقية.

إن أمة تفشل في علاقاتها العاطفية مع البشر لا يمكن أن تنجح في بناء علاقة عاطفية مع الأرض أو تعقد علاقة غرامية مع الوطن. تخلصوا من “الحبيب الطاغية” لتنعموا بطغيان الحرية. الحرية في عزلة خير من الاجتماع في عبودية. يقول الإمام علي (ع) “يا أيها المرء فكن مفردا دهرَك لا تأنس بإنسانِ، وجانب الناس وكن حافظا نفسك في بيت وحيطانِ”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .