العدد 3955
الثلاثاء 13 أغسطس 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
عظماء‭ ‬المجد‭ ‬بين‭ ‬الاكتئاب‭ ‬ولذة‭ ‬الصوفي‭ (‬27‭)‬
الثلاثاء 13 أغسطس 2019

هل صحيح أن هناك لذة خاصة أو سعادة كبرى تكون عند البسيط من الناس أو الزاهد أكثر بكثير من الأغنياء أو المشاهير أو حتى عظماء المجد؟ بالنسبة لي لا أشك أبدا في مدى مقدار قيمة هذه اللذة أو إيماني بأن الوسطيين هم الأكثر سعادة في الحياة، أكثر من الفقراء وأكثر من الأغنياء. الوسطي العارف الإلهي لا يصاب باكتئاب .هذه اللذة، لذة العرفان، لا يمكن أن تكون بهذا المذاق الكبير، والحلاوة غير المتناهية إلا إذا جاءت نتيجة مصنع تفكير مليء بأفكار معمقة، ومتناسقة بين الفكر والروح والجسد حتى تصل إلى هذا المستوى من الطعم. يقول الصوفيون: (نحن في لذة لو عرفها الأغنياء لحاربونا عليها بالسيوف). فلابد للأمان النفسي من توفر لذتين:1- لذة جسمية تبلغ أوج صورها في الصحة الجسمية الكاملة.

2 - لذة عقلية وتعني التحرر الكامل من الخوف والقلق. وذلك باكتمال مرحلة العروج الروحي والجسدي. مكونات هذه اللذة تتشكل من مزيج مفاهيم أضعها في نقاط:١- تذوق طعم العبادة القائمة على معرفة الله بالعلم، وليس بالعادة والتعود والتقاليد. وأعتقد أن الدكتور العظيم، مصطفى محمود أحد هؤلاء العظماء العرفانيين العمليين ٢- عدم اللهث وراء الكماليات بشكل هستيري. يقول الإمام علي ع:        

أموالنا لذوي الميراث نجمعُها       ودورنا لخراب الدهـر نبنيها

3- عدم منح القلب لأي بشر، حبيبا أو حبيبة بتعلق مرضي أو التعلق بالأمور الزائلة والمتغيرة وفق تغيرات الحياة. كلما قل حب الله زاد مقدار الفقر والحاجة إلى الصدقات العاطفية من البشر، بل قد يصل إلى تسول العاطفة حتى من الجماد، فقد ثبت نفسا (ان الأشخاص الذين لا يستطيعون النوم إلا عندما يحتضنون الوسادة أو اللحاف أو الأشياء، يعانون نقصا عاطفيا وحاجة للأحتواء والاهتمام والحنان)، وأما المهووسون بنجوم الغناء أو لاعبي كرة القدم أو المشاهير أو زعماء السياسة أو كبار رجال الدين، فهم سيكولوجيًا، إما يعانون نقصا عاطفيا أو غياب للمثل الأعلى، أو محاولة التحايل على ألم الواقع بصناعة صنم بطل، ليعوض عن الضياع أو إلقاء الجروح على قربان بشري مع إضفاء صفات إلهية عليه كما هو حال التفاف الجماهير حول رموز سياسية كما حدث لجمال عبدالناصر الذي وصفه نزار قباني بالنبي في شعر عاطفي غير واقعي: ( قتلناك يا آخر الأنبياء.. قتلناك.. ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء، فكم من رسول قتلنا وكم من إمام ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء، فتاريخنا كله محنة وأيامنا كلها كربلاء).

أقول: لا يوجد أخطر من الحب الهوسي، فقد يقلب كيان الإنسان رأسا على عقب. من يصدق أن الفيلسوف الشهير، شوبنهاور، هذا الفيلسوف المتشائم، والكاره للحياة أن أفكاره تحولت من التشاؤم إلى التفاول بمجرد وقوعه في فخ الحب، وذلك عندما أحب في شيخوخته شابة صغيرة، بل وندم ع كل ما قدمه من تشاؤم في الحياة. انتقادي لتطرف نظريات شوبنهاور أنها جاءت بسبب أزمة علاقة نفسية مع أمه، حيث كان يعاني منها. كرهه لامه قاده للتشاؤم ٤- الاستقلالية التامة عن الانتماء للمكونات البشرية، والأحزاب الضيقة وتأصيل البعد الإنساني كعقيدة ومنهج في الحياة. هكذا هم الصوفيون، لكني اختلف معهم في عدم اكتراثهم بالحياة الاقتصادية، والهندام أو أناقة المظهر.  وأنا لا أجد أن هناك تناقضا بين العبادة والتعلق بالله، والوسطية في امتلاك أسس القوة، والتي منها الاقتصاد، فالمهم ألا تصبح مهووسا بالمال أو المنصب أو الأناقة أو الحب. وهنا تأتي نظرية السعادة التي روج لها أفلاطون من خلال منهج الاعتدال. ومنهج الإمام علي ع ضد الفقر ومحاربته واضح وهو القائل في شعره: (ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجلِ). الاعتدال هو السعادة. مثلا، الشيوعية دمرت اقتصاد العالم بقدر ما دمرت الرأسمالية الفقراء؛ لأن كل منهما كان متطرفا في المنهج. وطبقة العمال (البروليتاريا) هي من انتفضت في الاتحاد السوفيتي، والدول الشيوعية على النظرية، وراحت تضرب تمثال لينين بالحذاء. ماركس، وهو أول مفكر تتحول نظريته إلى مذهب سياسي واقتصادي يقول بعد أن كتب كتاب (رأس المال) وهو يشير إلى ذاته: لا أحسب أن أحدا قط قد كتب عن النقود، وجيوبه خاوية إلى هذا الحد). ختاما، لذة العرفاء لا تجاريها لذة، وتكمن في اعتقادي في الوسطية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .