العدد 3975
الإثنين 02 سبتمبر 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
الفيل الأبيض في الحب والسياسة والاقتصاد (32)
الإثنين 02 سبتمبر 2019

للأفيال معزة خاصة في التراث التايلندي، ولعل أهم هذه الأنواع هو الفيل الأبيض، فيل جميل وأبيض ومقدس، وضخم ونادر، ولا يقتنيه إلا الأثرياء، لكنه في الواقع مشروع إفلاس، وطريق إلى الجحيم، ويقودك للنوم في نهاية المطاف على الرصيف مفلسا بلا حتى قطعة خبز؛ وذلك لسبب بسيط، أن هذا الفيل الضخم الوسيم الفاتن، والساحر الأخاذ ليس له فائدة تذكر، فهو غالي الثمن، ومكلف، ويحتاج رعاية دائمة واعتناء مثل أي مشروع ضخم عملاق يستنزف الدولة موازنتها. إن هذا الفيل يهدر نقودك على كل شيء، ومنها أنه يستهلك علفا أكثر من بقية الفيلة، إذن هو عبارة عن ثقب أسود في ميزانيتك. وكان في تايلند إذا أراد ثري أن يدمر شخصا وهبه فيلا أبيض. ومصطلح (الفيل الأبيض) يستخدم في الاقتصاد على مستوى الدول أو على مستوى استثمارات الشركات والمؤسسات أو حتى على مستوى الأفراد إذا ما كان استثمار أموالهم أو أوقاتهم في شيء غير مفيد، وغير مجدٍ، وليس له مردود مادي أو معنوي، أو تشغيلهم في المؤسسات في أعمال ضخمة من حيث المجهود، ولكن غير مهمة من حيث القيمة. كل مشروع غير ناجح هو فيل أبيض. كل مشروع اقتصادي ضخم تكلفة استمراره أعلى بكثير من أرباحه هو فيل أبيض يجلب هدرا، يحتاج بيعا أو التخلص منه بأسرع وقت؛ لأنه عبء على الموازنة العامة، خصوصا وأن كل دولنا تعاني ديونا قاتلة، وعجزا مخيفا، وهي ظاهرة عالمية، حيث أصبحت الديون مخيفة كما تفعل الصين بإفريقيا الآن بإغراقها بالديون.

يقول جون أدامز: هناك طريقتان لقهر واستبداد أمة: الأولى هي بحد السيف، والأُخرى هي عن طريق الديون”. ابتعدوا عن لعنة الديون قدر الإمكان على مستوى الشخصي والشركات، والدول إلا اضطرارا، واذا كانت بموازاة إنتاجية مرتفعة يزيد عن الفوائد الفرضية أو يغطي، خصوصا وأننا غير محصنين من خيبات الأمل الاقتصادية، بعد كل أزمة عالمية كما حدث لنا عالميا وعربيا بعد أزمة الرهن العقاري بأمريكا. أقول: إننا نعاني تكاثر الفيلة البيضاء في الحب والسياسة والاقتصاد، وإن كثيرا من تراكم القروض تتحول إلى فيلة بيضاء، خصوصا إذا علمنا أن المؤسسات الدائنة دوليا كصندوق النقد الدولي يلهث وراء توزيع أفخاخ القروض ليحلب مزيدا من حليب الفوائد الخالص لصالح ما يسمى بـ (الكوربوقراطية)، وهم هوامير الشركات الكبرى، هؤلاء الذين يجيدون القفز بين البرك الاقتصادية، تاركين بين كل بركة بلد وبركة بلد جثة اقتصادية هامدة كما حدث لاقتصادات النمور الآسيوية في 1987. كما جاء في كتاب (اعترافات قاتل اقتصادي، للخبيرالاقتصادي الدولي الأمريكي جون بيركنز، فهو مرعب ومخيف، علما أن الكاتب كان من ضمن الغطاسين مع أسماك قرش هذه المؤسسات العملاقة، حيث ذكر بأن مديونية العالم الثالث وصلت إلى 2.5 تريليون دولار، وأن خدمة هذه الديون بلغت 375 مليار دولار سنويا في العام 2004. يقول الإمام علي “ع “: (ما جاع فقير إلا بما مُتعّ به غني). السؤال: كم من فيل اقتصادي ضخم مكلف يستنزف موازنتنا العامة وهو جزء من العجز العام في ميزانية الدولة، وإلى الآن لم نقم بتصحيحه أو بإغلاقه، لنبدأ مشروعا أكثر نفعا؟ كم من مشروع فضحته بُقع الصدأ بعد أن اقتنعنا أنه من ذهب؟ هل نتعظ بنظرية النبي يوسف (ع ) من سبع سنوات عجاف قادمة بعد عدم التوفير لسنوات العمر السمان الماضية أيام وفرة أرباح البترول؟ اقتصادنا يحتاج عمليات جراحية؛ كي نشفى من خسائر فيلة المشاريع البيضاء. أغلب الدول ابتليت بمشاريع فاشلة وفيلة بيضاء أضرب مثالا: فندق “ريوغيونغ” أنشئ العام 1987، وهو أشهر مشروع “فيل أبيض” في كوريا الشمالية لم يكتمل إلى الآن، وليس له تمويل، اشتهر بأنه أعلى مبنى “غير مكتمل” في العالم. أو كجسر (روسكي) في روسيا كلف مليار دولار، وأنشئ لجزيرة لترويجها سياحيا، ففشل المشروع.

أقول: كم من موظف بلا إنتاجية هم عبارة عن فيلة بيضاء زرعوا في الوزارات يستنزفون الموازنة؟ فواتير هيئة الكهرباء الجنونية فيل أبيض. المباني المستأجرة للهيئة العامة للتأمين الاجتماعي فيل أبيض. بعض مشاريع الاستثمار لصناديق التقاعد عندنا فيل أبيض. تستنزف أموال الناس بلا فائدة. أرقام البطالة (المتناقصة) التي يقوم بتوزيعها وزير العمل كل صباح عبر الصحافة عبارة عن فيلة بيضاء غير صحيحة. كل مشروع يعرقل المشروع الإصلاحي لجلالة الملك سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا هو فيل أبيض.

وماذا عن الفيلة البيضاء في الحب؟ أقول: ولكل واحد منا فيله الأبيض الخاص به الذي يحتاج التخلص منه؛ لأنه يستنزفه ماديا وعاطفيا، ويقوده للإفلاس، لكنه يخشى التخلص منه؛ لأنه يعتبره طفله المدلل، يسد فراغه، ويبعده عن شبح الوحدة. وكم فيل أبيض سياسي استنزف المجتمع والبشر، وقادها فقط لخسارات سياسية، ولمحارق ومسالخ كستالين ومقتدى الصدر والبغدادي، وأبو سياف، وبلحاج، وعبدالكريم قاسم، لكننا نخشى تشريح هذا الفيل بالمبضع النقدي، أو المراجعة والتفكير أو البحث عن نظريات جديدة في السياسة بعيدا عن كل ذلك. السياسي المحنك هو من يمتلك ذكاء المسافة بين الخبرة والمقبرة، والخيط الضعيف بين الرقة والمحرقة في فن إدارة دبلوماسية علاقات الحكم والسلطة والجمهور؛ ذاك الذي يثّمر الأغصان بذكائه السياسي للجمهور والوطن، ويبعد الأكفان كما فعل السيد محمد حسن الصدر بعلاقته القوية بالملك فيصل الثاني في دعم المملكة العراقية في العام 1948م.

نحن كنا مشبعين ومتخمين بالفيلة البيضاء من النظريات البائسة التي ورطتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لكننا نخشى الحديث عن إجراء عمليات جراحية لمثل هذه النظريات؛ لأننا نعاني فوبيا الجديد. يقول المفكر الإنجليزي الكبير برتراند راسل: (لو شعرت بأن سفينتك تغرق، قد يكون هذا هو الوقت المناسب للتخلص من الأشياء غير الضرورية التي تثقلها). أقول: كل واحد منا يجب أن يتخلص من فيله الأبيض العالق بحياته أكان حبيبة أو صديقا أو مسؤولا أو شريكا في شركة أو مشروعا ضخما بلا فائدة. الوكيل أو الرئيس التنفيذي الذي لا يقدم رؤية اقتصادية ناجحة لوزارته، ويعتمد على جلد ظهور الناس بالضرائب هو ينتج مشاريع عبارة عن فيلة بيضاء. بعض السياسيين الذين تحولوا إلى عبء على الجمهور، وبعض الأفكار المغلقة الإسمنتية التي تحولت إلى فيلة بيضاء عبء على الأديان، وعلى الناس، وعلى المدنية والحضارة؟ نحن عندنا تضخم في كل شيء، في الاقتصاد مع زيادة أسعار جنونية، وتضخم في الطارئين المؤدلجين على الدين، وزادت أسعارهم مع أن القيمة للعملة النقدية لثقافتهم قليلة، ولا يوجد داعم وغطاء لها لا ذهب علمي ولا دينار معرفي. قال قائل ذات يوم: (ذهبت للفاتيكان، فوجدت سقوفا مطلية بالذهب، ثم تحدث البابا عن قلق الكنيسة على أطفال الفقراء. تبا لكم، بيعوا السقوف!) ونحن تتضخم المساجد، وتكثر، وغالبية المصلين جوعى أقول: فليتخلص كل منا من فيله الأبيض في الحب والسياسة والاقتصاد.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية