العدد 4009
الأحد 06 أكتوبر 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
هيروين الحب بين عبودية الجرح وغواية النزف
الأحد 06 أكتوبر 2019

(لم يعد في قلبي مكان لرصاصة جديدة). تلك مقولة الشاعر محمود درويش الذي أخفق في الحب مرة والزواج أكثر من مرة. أحب درويش فتاة إسرائيلية، وتلك هي مفارقة الحب عندما يبحث عن كيميائه الخاص. كيف يتحول الحب إلى بندقية والقبلة إلى قنبلة والنظرة إلى رصاصة؟ شاعر الثورة ترك حبه وانحاز لأرضه، فلا يمكن أن يستمر في حب فتاة مجندة ضد وطنه. تنازل شاعرنا عن حبه، لكنه بقي وحيدًا يرفض مغازلة أي امرأة ولو كانت على هيئة فراشة زرقاء؛ لإيمانه أن الحب كما هي عاداته يعطيك الجنة في البداية، ثم جهنم بالتقسيط. متعبون نحن من خيباتنا في الحب، ولو قمنا بالتنقيب في قلوب البشر لاكتشفنا حجم التآكل في بنية قلوبهم. لا شيء يغوي في الحياة سوى التمتع بحرية، وإلقاء القيود في البحر للتمتع بأشعة الشمس على شاطئ كاريبي. لا تكفكف دمعك مادمت تغرس كل يوم جرعة جديدة من هيروين الحب في وريدك، أما بالبكاء على الأطلال أو الركون لغواية شفتين رفضتا الإقامة الجبرية إليك، فأنت عاشق يمتهن عبودية الجرح ويغويه النزف!!


الأميرة ديانا لن تتكرر؛ لأنها كانت أشبه بفراشة وحيدة خرجت من شرنقة التاريخ والحكم لتكون مثالًا حيًا لكل من يريد العبث بالحب ولو كان صادقا. هزمها الحب، فتبعثرت في الطرقات بحثا عن حبيبها تشارلز الذي سكن واستقر بداخلها فلم يخرج. كانت تتحايل على النسيان بالنوم على رصيف الضياع وفي تعدد الأوجه بحثا عن الوجه الضائع. كانت أشبه بعصفور صغير محبوس في قفص ذهبي. هي تحمل صفات النورس في علاقته مع السماء ولون الحرية الأزرق، لكنها العصفور الذي يهرب إلى السماء وفي ذات الوقت لا يريد نسيان سجّانه ولون قفصه. وفي نهاية التراجيديا بدايات أُخر. صنعت لها سماءها فطارت، وحدهم الطيور البشرية قد يتركون السماء من أجل عيون الحب، ولكن حين يحبطون في الحب يتركون الأرض ليكون اختباؤهم في قبر على هيئة سحابة تمطر في السماء دما وذكريات؛ لذلك كان رحيل أميرتنا الويلزية اختيارًا، فبعض البشر ولدوا ليحبوا، فإذا أحبطهم الحب رحلوا. وحدها ديانا قفزت من القلعة إلى حيث البحر، تبدو عليها الثقة، ولكن في الداخل هي ممزقة إلى أشلاء.


أنا أؤمن بالحب المتوازن وليس الهوس في الحب. في كل هذه الفوضى الحياتية قد يضحك لك الدهر برئة بشرية على شكل حبيب، تمنحك شيئا من تنفس الحب الحقيقي، هذا إذا لم تكن ذات يوم مصابا بربو علاقة سابقة، مازالت تخنقك عند انبعاث غبار ذكرياتها الصحراوية السوداء. لا تجعلوا من الحب مشنقة أو حائط مبكى أو مزار قداس، أو ضريح وجع، تجاوزوه في بناء علاقة أجمل وأدق . قال حكيم ذات يوم: لا تتوقفوا أمام من يجرحكم ولو كان حبيبا استمتعوا بالحياة، فمن يوذوك لن يكونوا معك في دار العجزة غدا.


كثير منا يفضلون أن يكونوا رهائن خشية الوحدة أو الفراغ القاتل، كثير منا يدخل في علاقة يعرف مسبقا أنها فاشلة، ويقوم بذلك لتفادي الفشل أو خوف التعرض للهجر، ويقبل بالاستمرار بتغذية العلاقة بالماديات أو الذكريات ظنا أن ذلك سيقوي مفاصلها وأن لا تصاب بالكساح أو لين العظام، ولكن الحقيقة أن النهاية هي بنت البداية، فما ابتدأ خطأ بالمال سينتهي بسبب المال. بعضنا اختار زنزانة الحب على حرية الانعتاق. قال عاشق:
(حتى وجع فراقكَ يحملُ شغفًا حُلوًا!


‏أريدُ أن أعْتَني بهذا “الوجع”..
‏أُربِّيهُ في صدري..في أغنياتي.. في كُل ما أكتب!
‏أخشى أن تُداويه الأيام ..أن ينطفئ!
‏أن يصير مُجرّد “رجعَ صدى”..لا لون له ولا رائحة!).


أعلم أن على طريق الحب ضحايا، وتصلني رسائل عبر الأميل يريدونني أنا أواصل النزف في الكتابة في الحب، فبعضهم يقول إن النزف في حد ذاته نوع من أنواع الصلاة، فأجمل من تخثر الحب بالجسد، رؤيته مسكوبا على صفحات الكتابة. اعلم أن كثيرا من هؤلاء يبحثون عن طوق نجاة، فليس أقسى من ذكرى تتحول إلى شظية في عين الذاكرة أو مُدية تتفنن في رسم الوجع لوحةً تعلق على شغاف القلب، وتلك هي قصتنا تتكرر شبيه بقصة تلك الفتاة التي وعدها البحار بالعودة والزواج، وانتظرته على مدى 44 عاما، كانت تقضي أيامها في الميناء، تلوح لكل سفينه عابرة وتسأل البحارة عنه، بهذا التمثال خلد أهل القرية ذكراها، مؤلم الحنين لشخص لابد لك (من نسيانه)، ومن لا ينسى يكرر “ثق تماما: العين التي تمتلئ بك، لن تنظر لغيرك حاضرا كنت أو غائبا”. في قاموس درويش العشقي يقول بإمكاننا النسيان: الحب الأول لا يموت، بل يأتي الحب الحقيقي ليدفنه حيا.
أقول: لم أترك فيلسوفا ولا عظيما إلا وتسللت إلى حديقة قلبه بحثا عن قصته في الحب، فوجدتهم جميعا إلا قليلا، محبطين ومجانين ومخدوعين من أوسكار وايلد إلى نيتشه إلى راسل وجينيه إلى دي ساد وبلزاك وتشايكوفيسكي. الحياة الجميلة وتبقى أجمل إن انعتقتم من عبودية الحب إلى حيث كوكتيل الحياة، إلا إذا مازلتم تستطعمون مذاق الرصاص. أما العاشق التائب، فسيكرر “لم يعد في قلبي مكان لرصاصة جديدة”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية