العدد 4047
الأربعاء 13 نوفمبر 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
سقوط جدار برلين الإسلام السياسي
الأربعاء 13 نوفمبر 2019

قبل 15 عاما نسجت بأصابع محترقة مقالات مفصلة عن “عفريت” الدولة الدينية أو حكومات “الزومبي” القائمة على أيديولوجية التوحش الديني أكانت سنية تعتاش على مائدة الخلفاء (رض) أو شيعية توزع “الدولة الممهدة للمهدي ع” على حساب أهل البيت (ع) أو مسيحية تتاجر بنظرية “الخطيئة” أو يهودية تقوم على عنصرية “الشعب المختار”، وقلت: لا يمكن أن تستمر أي حكومة دينية، وأن المخدرات الدينية مهما كانت قوية سينتهي مفعولها في الدم للشعوب المخدرة. وذكرت من باب المثال “طالبان” وإيران و “الإخوان المسلمين” متمثلة في نظرية الخلافة والأحزاب الدينية من حزب الدعوة والحكيم ولبنان في حزب الله متمثلًا في ولاية الفقيه.

قلت: حركات الإسلام السياسي تختلف، الجينات والحامض النووي واحد تمامًا مثل الأنظمة الدكتاتورية، فتلك تحتكر الإله وهذه تحتكر الكرباج. درست فكر الإخوان عندما كنت في إيران، وفكر سيد قطب عبر تفسيره القرآني “في ظلال القران” أو كتابه “معالم في الطريق”.

وحضرت الدروس الأخلاقية للشيخ محمد مهدي الآصفي وهو الأب الروحي لحزب الدعوة. وحضرت دروس آية الله السيد الشاهرودي في منتدى جبل عام، وكان المنتدى متنوعًا للراغبين في الدراسة، إلا أنه يكثر فيه طلاب حزب الله في قم، وكان في أحد الدروس يدرس معنا السيد عمار الحكيم ذاته، وكان أستاذنا حينها آية الله الشيخ حسن الجواهري من أحفاد “صاحب الجواهر”.

وذات يوم كنت المقدم لحوار وكلمة السيد محمد باقر الحكيم في مجمع البحرين. وبعد كل هذه السنين من الدراسة والدخول في دهاليز الأحزاب والأفكار وصلت إلى نتيجة مهمة عكس ما درسته، من حتمية فصل الدين عن السياسة، وأن الدين لله والوطن للجميع، وأن مظلة الإنسانية هي أكبر مظلة للإنسان، والدولة المدنية هي الأفضل للإنسان، وأن ثقافة الحياة ومعرفة الله وحب أهل البيت والصحابة يتعمق أكثر في قلوب الشباب عندما نبعد هذه المقدسات عن السياسة وعن مصالح الدول المتغيرة دائما.

وأعتقد أن 10 سنوات تحت ظل حكم ولاية الفقيه كافية لتشكيل رؤية، بالنسبة لي، أن الحكم الليبرالي الذي يحترم الأديان كمعظم الدول الأوربية هو أفضل ألف مرة من حكم ديني يقمع الحريات الدينية.

ومن العام 2006 إلى 2019 أكثر وقتي عشته بأوروبا، ولو قسمنا العام إلى نصف فنصف وقتي في أوروبا، وكما نقبت عن المعارف الإسلامية في إيران بقيت بأوروبا أدرس الفكر الأوربي ونمط الحياة الأوربية.

درست كل كتب الفقه والأصول والفلسفة والمنطق، وعكفت من ١٩٩٦ في قم على دراسة الفلسفة الغربية ومعنى الدول العلمانية والليبرالية عبر كتب مهربة، بكل هذا الواقع الذي عشته وصلت لقناعة مفادها أن الدولة الدينية شيء وحب الله شيء آخر، وأن الدول ذات النظام الديني لا تلتقي مع الحضارة والطبيعة البشرية والفطرة السليمة.

ذات يوم ذهبت إلى مسجد في دولة غربية، صليت في المسجد بكل حرية وكان حارس المسجد علمانيا أوروبيا.

الدين إذا أدخلته السياسة حكمت عليه بالإعدام. علاقة الفرد مع ربه علاقة خاصة، لا يجوز لأحد أن يحتكرها أو يدعي امتلاك وكالة حصرية من السماء. ظلت إيران والأحزاب الإسلامية سنية أو شيعية ترفع شعار المظلومية، والعدالة الاجتماعية للشعوب، ومنها إيران والعراق، وعندما انتفض لبنان والعراق انقلبوا على ما علموه الناس ونكلوا بذات الجماهير التي تحبهم.

إن شيعة العراق ولبنان وقبلهم إيران يعيشون ما يسمى في النفس، اضطراب ما بعد الصدمة، خصوصًا الشباب. الشارع الشيعي العراقي واللبناني ما كان يظن أن إيران والأحزاب التي تتبنى الفكر الإيراني وشعارات العدالة وحقوق الإنسان ستقف ضد مطالب معيشية، وتصطف مع حكومات عرفت بالفساد والقمع.

الأعوام االمقبلة لقادمة ستكون أعوام الصحوة الشيعية من ذوبان الشعارات إلى نحو العقلانية، وقراءة الأمور دون النظارات الشعاراتية. أنا لا أؤمن بأن هناك مؤامرة على العراق أو لبنان، بل هناك مكر تاريخي بتحول تاريخي وتوازن كوني وانبثاق نظرية “البجعة السوداء” في عين إيران من صحوة شبابية كصدمة الشيوعيين من الاتحاد السوفيتي سابقًا، فإن الإنسان منذ الخليقة مهما تم تخديره يجنح في نهاية المطاف لحب الحياة، ومواكبة الحضارة والعصر واكتشاف المصالح السياسية التي يخفيها النظام العالمي.

المارد الشيعي العروبي خرج من الغيبوبة السياسية، وسيبقى محتفظا بحبه لأهل البيت (ع)، ولكن سيزيل كل ما علق بالعقيدة من أوساخ السياسة، ومصالح برغماتية. هذه مرحلة سقوط التمثال الإيراني من عين الشاب الشيعي تماما كما سقط الاتحاد السوفيتي، وسقط جدار برلين، وستنتقل العدوى إلى إيران. كما في بيروت وفي بغداد شباب يعشقون الحضارة، ويريدون أن يكملوا جامعتهم ثم يتزوجون، ويعملون ويتجولون في العالم، ويلبسون آنق الثياب محبين لدينهم الوسطي، كذلك في النجف وقم وبئر العبد والضاحية وجنوب لبنان، فليس مكتوبا عليهم فقط الاستشهاد والموت ونظرية “القتل لنا عادة” التي أخرجت من سياقها. من حق هذا الشاب الشيعي أن يعيش ويقود أجمل سيارة، ويؤمن مستقبله، ويستعيض عن ثقافة “شهادة الوفاة” بالشهادة الجامعية.

منذ 23 عاما وأنا أشتغل نقديًا عبر كتابات وحوارات ومحاضرات، لترسيخ ثقافة الحياة على ثقافة الموت وثقافة المباهج على ثقافة المسالخ، وثقافة الحدائق على ثقافة المحارق واستبدال الشهادة الجامعية على شهادة الوفاة في عقل الشباب المسلم خصوصًا الشيعي، وها نحن نشهد بعض الثمار. ليس مكتوبا على هذا الشاب السقوط في المحارق، ودفع الفواتير لسياسات متحولة مكيافيلية. الحكومات العربية عليها احتضان الشيعة العرب أكثر من السابق خصوصًا الشباب المنتفض الذي خرج من الغيبوبة واكتشف الآن حقيقة الأمور، بل ودعم ثوراتهم ولو إعلاميًا، ليس من منطلق الطائفة، ولكن من منطلق رؤية حقيقية وإكثار من عودة قوة العرب المغيبة، ومن منطلق أن ملايين من الشيعة هم مع أوطانهم، والدليل ما حدث في العراق ولبنان وإيران والأحواز من تمرد.

إنها فرصة تاريخية لاحتضان شباب العراق ولبنان وتقديم خطاب جديد يحمل الحنان الوطني، والانتمائي العروبي والوظيفي ودمجهم في المجتمعات؛ كي لا يصبحوا لقمة سائغة لدى الغير. وما نشهده من رجال دين وشباب يصرخون من ظلم الاحتكار الحزبي المسيس للبيت الشيعي في العالم الإسلامي خير دليل.

في قراءتي لمذكرات رئيس وزراء سنغافورة، لي كوان يو (قصة سنغافورة) دار العبيكان، الذي اعتبره أحد أنبياء العدالة الاجتماعية في القرن العشرين، ذكر أن من الخطط التي انتهجها في مشروعه القومي لتوحيد سنغافورة ذات الأديان والأعراق المختلفة من مسلمين وهنود وصينيين وملاويين أنه دمجهم في المشروع القومي لبناء سنغافورة، وشرع قانونا يجرم المساس بالطوائف أو المعتقدات أو أي نبذ عنصري متبادل، وسعى لدمجهم في المدرسة والجامعات والاقتصاد بأن الدين لله والوطن للجميع. هذا ما نحتاجه في العالم الإسلامي، وأيضًا في لبنان، من إلغاء المحاصصات الطائفية، والاشتغال على المشروع الوطني القومي.

لهذا من الأمثلة الجميلة الحضارية هي زواج العوائل المختلفة في المذهب والملتقية في حب الله والوطن. إنه أجمل مثال للسلام الإنساني. تزاوجوا من بعض ستنتجوا كوكتيلا بشريا يحمل نكهة الحضارة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .