العدد 4058
الأحد 24 نوفمبر 2019
banner
الإسلام السياسي السني والشيعي... وجهان لعملة واحدة
الأحد 24 نوفمبر 2019

المشتغلون في الإسلام السياسي، سواء كانوا سنة أم شيعة، كانت ولا تزال تجمعهم عقيدة مشتركة، ويربطهم هدف واحد واضح، وهو ضرورة الوصول إلى كراسي الحكم وضرورة السيطرة على مقاليده، من خلال مشروع “الدولة الدينية”، هذه حقيقة لا غبار عليها ولا يختلف عليها اثنان، وقد تجلت حالة التوافق بين الطرفين في فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي؛ عندما تمكنت الحركات الإسلامية وقتها، السنية والشيعية منها على حد سواء، من تخطي وتجاوز الاختلافات والصراعات المذهبية ثم التوصل إلى رسم خطوط متوازية ومرتكزات فكرية متداخلة بينهما.

إن ثمة حقيقة أخرى تستحق التوقف عندها أو الإشارة إليها، في هذا السياق على أقل تقدير، وهي أن بذرة الفكر السياسي الإسلامي بشقيه الشيعي والسني في العصر الحديث كان قد بذرها في التربة العربية مفكرون إسلاميون، غالبيتهم العظمى غير عرب ولا ينتمون إلى الفكر العربي ويفتقدون الحس القومي والنسيج العاطفي للوجدان العربي، والذين أصبحت لهم الأولوية والأسبقية في المبادرة إلى إيقاظ وتحفيز الحراك الإسلامي السياسي بشكل عام، كان في مقدمتهم، في الجانب السني الإمام جمال الدين الأفغاني المولود في العام 1838م في مدينة أسد أباد الأفغانية، ويقال في منطقة أسد آباد بمدينة همدان الإيرانية، وقد نشب خلاف حول كونه سنيا أم شيعيا.

وإلى جانب ذكائه وفطنته وتحصيله العلمي اللامع، فقد اكتسب جمال الدين خبرة عسكرية قتالية عندما شارك في حرب أهلية في أفغانستان، وكان من ضمن قادة الجيش الذي حاصر واستولى على مدينة “هرات” الأفغانية، وأصبح على إثر ذلك الوزير الأول أو رئيس وزراء أفغانستان في العام 1862م، تذوق خلالها طعم الأمارة ولذة السلطة.

وضمن منازعات وحروب مختلف الأجنحة في أفغانستان وقتها، فقد تم بمساعدة الإنجليز إزاحة جمال الدين وإبعاده عن أفغانستان، وأصبح يتنقل بعدها بين مدن بومباي وطهران وبغداد وإسطنبول، بالإضافة إلى لندن وباريس وموسكو، إلى أن طاب له المقام في القاهرة، وأصبح أستاذًا تتلمذ على يديه عدد من كبار المفكرين الدينيين، وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده، كما تبوأ مركزًا متقدمًا في صفوف رجال الدين والمفكرين الإسلاميين في مصر، وتقلد مكانة رفيعة في المجتمع المصري، وصار له أصدقاء ومريدون من أصحاب المواقع العليا مثل محمود سامي البارودي، وأحمد عرابي، وغيرهما، وأصبح يُنَظّر ويتدخل في السياسة وفي شؤون مصر الداخلية، وانظم إلى “المحفل الماسوني” فيها إلى أن أصبح رئيسه، وقد أسس الأفغاني لمبدأ “المنهج الثوري” في الفكر السياسي الإسلامي أثناء وجوده في مصر، والذي أدى إلى قيام ثورة عرابي في العام 1881م بعد عامين من نفي الأفغاني من مصر بأمر من الخديوي محمد توفيق.

بعد وفاة جمال الدين الأفغاني بخمس سنوات ولد الإمام روح الله الخميني في مدينة “خُمين”، وهي إحدى مدن المحافظة المركزية الإيرانية، وبعد ذلك بعام واحد، أي في العام 1903م ولد في مدينة أورنك آباد بولاية حيدر آباد الهندية العلامة أبو الأعلى المودودي الذي أسس في لاهور منظمة “الجماعة الإسلامية” في العام 1941م. وقد كان للعلامة المودودي نتاج فكري إسلامي سياسي غزير، منه كتاب “كيف تقام الحكومة الإسلامية” وكتاب “الحكومة الإسلامية”، وكان من أبرز المتأثرين به العلامة سيد قطب، وقد نَظّر المودودي لمفهوم “الحاكمية” ورفض على أساسها سلطة البشر داعيًا إلى الثورة عليهم وعصيانهم كأمر إلهي، وإلى إحداث التغيير بالقوة؛ من أجل التمكين لدين الله وتكريس الشريعة الإسلامية.

في تلك الفترة تربع على رأس الحركات الإسلامية السياسية في الوطن العربي “حزب الإخوان المسلمين” الذي تأسس على الجانب السني في مصر في العام 1928م، وبعدها بـ 31 عامًا تأسس في الجانب الشيعي “حزب الدعوة” العراقي في العام 1959م.

وليس من الصعب قراءة التقارب والتداخل والتوافق بين الفكر الإسلامي السياسي السني ونظيره الشيعي، والتلاقح الحاصل بين الاثنين، فقد تأثر المفكر الشيعي البارز محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة العراقي بفكر سيد قطب، فتشابهت وتطابقت أفكارهما، ويبرز هذا التطابق بكل وضوح في كتابيهما المشهورين، كتاب سيد قطب “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، وكتاب محمد باقر الصدر “اقتصادنا” الذي ألفه في العام 1982، أي بعد 16 عامًا من وفاة سيد قطب.

ويقول القيادي الإخواني السابق ثروت الخرباوي، في كتابه (أئمة الشر: الإخوان والشيعة): “انعقد نوع من التحالف بين حزب الدعوة وبين الحزب الإسلامي العراقي السني الذي كان بمثابة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في العراق، الأمر الذي أتاح الفرصة لانتقال الكثير من أفكار قادة ومنظري الإخوان في مصر إلى بلاد الرافدين تحت ستار هذا التحالف السياسي، وكانت مبادئ الفكر القطبي بطبيعة الحال قد استطاعت أن تجد لنفسها مكانا لائقا على الساحة العراقية حينذاك. إن أهم الأفكار القطبية التي تسرّبت إلى حزب الدعوة كانت التأكيد على ضرورة قيام الإسلام كنظام للحكم في إحدى الدول، لتكون بمثابة نقطة انطلاق بعد ذلك نحو تأسيس دولة إسلامية عالمية لا تحدها حدود ولا نطاق جغرافي معين، وكل ذلك تحت شعار الحاكمية المطلقة لله وحده، وهي الفكرة التي لطالما دعا إليها قطب في كتاباته”.

وكما ذكرنا فقد ألَّف أبو الأعلى المودودي بالهند كتابه الشهير المعنون “الحكومة الإسلامية”، وألف الإمام الخميني كتابا مشابها في الأفكار والأهداف ومطابق حتى في العنوان، أي بالعنوان نفسه: “الحكومة الإسلامية” الذي تم نشره بعد ثلاث سنوات من إعدام سيد قطب.

ولا تزال العقيدة المشتركة بين المُؤلِفين وهي أن “الدين الإسلامي أساس المشروعية في المجتمع والدولة” ثابتة وراسخة في فكر الطرفين، ولا يزال شعار “الإسلام دين ودولة” متفق عليه بينهما حتى الآن ولو افترقت الطرق شكليًا أو تقاطعت بين “المرشد الإخواني” و”الولي الفقيه” في المرحلة الراهنة.

وقد التصق حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين، واقترب كثيرًا من جوهر الفكر السياسي الشيعي المعاصر والقديم عندما فارق وخالف الاتجاه الثابت والراسخ قديمًا وحديثًا عند جمهور علماء أهل السنة والجماعة من أن الحكم والسياسة من الأمور الفرعية والفقهية، بينما اعتبرها البنا “من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر”، وهذا هو التصور ذاته الذي يحمله مفكرو الشيعة الذين يعتبرون “الإمامة” أو قيادة الأمة هي أصل من أصول الدين وأركانه.

إن الكثير من الدراسات والمصادر تؤكد أن الإمام الخميني قد تأثر بالفكر السياسي الإسلامي السني وبأفكار كبار مفكريهم ما أدى إلى قيامه باستنهاض “نظرية ولاية الفقيه” وتطويرها على قاعدة متقاربة من الفكر السني ومرتكزة على شعار مشترك وهو “الحاكمية لله”، وعلى أساس هذه النظرية عمل الإمام الخميني على إعادة تشكيل الفكر السياسي الشيعي فيما يتعلق بضرورة النهوض وعدم “الانتظار” وتفعيل مشروع أو دور الدولة الإسلامية كما هو حاصل في الفكر السني، ونجح في نقل إعداد من الشيعة من خانة “الانتظار” والابتعاد عن النشاط السياسي وشؤون الدولة إلى الانخراط في الحراك والعمل السياسي.

فقبل النسخة المطورة لـ “نظرية الولي الفقيه” التي أرساها الإمام الخميني كان الفكر السياسي الشيعي قد ركن إلى “حالة الانتظار” لظهور الإمام المهدي المنتظر، وكان الشيعة قد دخلوا في مرحلة اتسمت “بالسلبية السياسية المطلقة، حيث حرَّموا الثورة وإقامة الدولة إلا بعد ظهور الإمام المعصوم المنصوص عليه من الله” كما أكد ذلك الباحث أحمد الكاتب في كتابه “تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه”.

وكما أن هناك جملة من المشتركات والتطابق الواضح في التنظير والأطر الفكرية بين الطرفين كما رأينا، فإن الوقائع والمؤشرات وحتمية التاريخ تؤكد بأن مشروع الطرفين لإقامة “الدولة الدينية” سيواجه الانكسار والفشل في نهاية المطاف، فهذا التوجه هو مخالف حتى النخاع لاتجاه العصر ومعاكس بشكل حاد لمجرى التاريخ الذي أطاح بالدول الدينية في أوروبا عندما أزيحت الكنيسة من كراسي الحكم، كما أن الخلافة العثمانية قد تهدمت بكافة هياكلها وأعمدتها وأركانها ولا أمل البتة في إعادة بنائها أو حتى ترميمها، إلى جانب ذلك، فإن ثمة تباينا عميقا في المنطلقات والجذور بين الفكرين السياسيين المعاصرين للشيعة والسنة بالنسبة إلى قضية “الدولة”، وهي القضية المحورية بالنسبة للطرفين، ففي الموروث والوعي السني، فإن “الدولة” ليست شأنًا دينيًا إنما هي قضية دنيوية مصلحية، ولم تكن مشروعًا واردًا أو همًّا انشغل الفكر السني به من قبل. أما بالنسبة للشيعة، فإن “الدولة” تقع في صلب المعتقد الديني، وهي مشروع قائم ووارد ومطروح في الوجدان الشيعي منذ غيبة الإمام المهدي المنتظر قبل أكثر من ألف عام ليتم تنفيذه على يديه بعد ظهوره، فلا غرابة إذًا إن وجدنا بعد فترة تخلي الفكر السني عن مشروع الدولة الدينية وعودة الفكر السياسي الشيعي إلى حالة الركود والانتظار.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .