+A
A-

الغلاء يكوي اللبنانيين.. انتحار ومؤسسات تقفل أبوابها

يُخيّم القلق على اللبنانيين مع تناسل الأزمات المعيشية والاجتماعية وتفاقمها نتيجة شح المال عبر المصارف وتراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار، ما أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية بمعدل 25 إلى 30 في المئة، وزيادة معدلات التضخم إلى أكثر من 9 في المئة، وإلى غلاء المواد الاستهلاكية ما بين 10 و30 في المئة.

وتدهورت الأوضاع المعيشية في سباق انحداري مع تقلص النمو تدريجياً ليتدحرج بوتيرة أسرع مع انطلاق شرارة الحراك الشعبي في 17 أكتوبر/تشرين الأول، فأرخت ‏بظلها الثقيل على كافة فئات المجتمع اللبناني، حتى ظهرت خلال اليومين الماضيين حالات انتحار عدة، إثر تدهور الوضع المعيشي، طالت شباباً عجزوا عن تأمين لقمة العيش لأولادهم، كان آخرها ما حل بالشاب داني ابي حيدر، الأب لثلاثة أطفال والمعيل لوالديه، الذي أقدم على إطلاق النار على رأسه الأربعاء.

الدولار أساس الأزمة

وبدأت الأزمات المعيشية تطل برأسها بين اللبنانيين مع بروز أزمة شحّ الدولار التي انطلقت في سبتمبر/ايلول الماضي والتي استنفرت مستوردي السلع الاساسية الذين يعتمدون على العملة الخضراء لشرائها. وازدادت تعقيداً بعد إغلاق المصارف أبوابها منذ اندلاع الحراك وعدم التزام مصرف لبنان بالتعميم الذي أصدره لتأمين الدولار للسع الأساسية.

وما فاقم الأزمات المعيشية الإجراءات ‏التقشفية التي اتّخذتها المصارف من أجل المحافظة على موجوداتها من العملة الخضراء، في حين أن سعر دولار السوق ‏السوداء بقي يدور حول 1900 و2020 ليرة مع تفاوت في أسعار الشراء والبيع بين ‏صرّاف وآخر، بحسب ما أكد نقيب الصرافين في لبنان محمود مراد لـ"العربية.نت".

ولفت إلى "أن تراجع سعر صرف الدولار مرتبط بالاستقرار السياسي وتشكيل حكومة جديدة".

ارتفاع جنوني للأسعار

وأدى تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار إلى ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بشكل جنوني.

وأوضح نقيب أصحاب السوبرماركت في لبنان نبيل فهد لـ"العربية.نت": "أن أسعار المواد الاستهلاكية كافة ارتفعت بنسبة 10 بالمئة، وهناك أصناف محددة من السلع ارتفعت بنسبة 30 بالمئة".

إلا أنه طمأن إلى "أن عجلة الاستيراد عادت إلى طبيعتها منذ أسبوعين ولو بوتيرة أقل، والأولوية باتت بالنسبة لنا استيراد المواد الأساسية كالحبوب والزيوت على حساب السلع الثانوية أي الكمالية".

رفع سعر ربطة الخبز؟

كما برزت على المستوى الحياتي إشكالية ‏سعر ربطة الخبز، ربطاً بارتفاع سعر الطحين، وكلفة إنتاج ربطة الخبز بسبب ارتفاع ‏أسعار مكوّنات الربطة بالإضافة إلى الطحين.

ومع أن وزير الاقتصاد، استطاع بعد مفاوضات ‏مع أصحاب المطاحن والمستوردين وأصحاب الأفران الإبقاء مؤقتاً على سعر ‏الربطة (1500 ليرة لبنانية أي ما يعادل دولارا أميركيا) كما هو، يبدو أن هذا السعر لن يصمد طويلاً بسبب المواقف المتباينة بين أصحاب الأفران بين من يؤيّد رفع السعر وأخر يدعو إلى تخفيض وزن الربطة.

وأوضح بول منصور صاحب مطاحن التاج، ونائب رئيس نقابة مال القبان لـ"العربية.نت": "إن سعر ربطة الخبز سيرتفع حُكماً إذا استمرت أزمة الدولار، مع العلم أن أسعار الطحين منخفضة عالمياً".

كما قال "الدولة لا تزال تدعم استيراد الطحين بنسبة 85% بالعملة المحلية (بسعر 1515)، أما نسبة الـ15% المتبقيّة فتدفعها الأفران".

ووفق وزير الزراعة، يستورد لبنان سنوياً بقيمة مليارين و700 مليون دولار من الطحين.

البنزين يؤرق اللبنانيين

وليس بعيداً، لا تزال أزمة انقطاع البنزين تؤرق اللبنايين بسبب لجوء الشركات المستوردة للمحروقات إلى إعلان الإضراب أكثر من مرّة بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة وتراجع قدرتها على تأمين العملة الخضراء لتمويل الاستيراد.

ومع أن مصرف لبنان أصدر تعميماً قضى بأن يتم الدفع من قبل المحطات والموزعين بالليرة اللبنانية بنسبة 100% للشركات المستوردة التي تؤمّن الدولار من المصارف بالسعر الرسمي (1515)، من خلال فتح اعتمادات لها بالدولار، كي تتمكن من تسديد ثمن مستورداتها، إلا أن المصرف المركزي لم يلتزم إلا بنسبة 85%، تاركاً تقاسم نسبة الـ15% المتبقية للشركات والمحطات، وهو ما يجعل مصير اللبنانيين معلّقاً على حبل خلافات هذه الجهات وتراجعها عن التزاماتها.

إقفال مؤسسات ومحال تجارية

وتحت وطأة التراجع الحاد في حركة الأسواق التجارية عقب اشتداد أزمة الاقتصاد وزيادة انكماشه في الأشهر الماضية، اضطر عشرات التجار إلى إقفال مئات المحلات التجارية في الأسابيع الأخيرة واللجوء إلى تقليص الأعمال (نصف دوام) وصرف آلاف العاملين، وشمل ذلك مؤسسات عريقة (نحو ثلاثة آلاف) ومحلات شهيرة تابعة لمؤسسات عالمية في مجالات الأزياء والمطاعم واللوازم المنزلية وسواها في مناطق معروفة بنشاطها التجاري في العاصمة بيروت ومدن لبنانية عدة.

وتنوعت هذه الظاهرة بين إقفال نهائي أو إقفال فروع تابعة لشبكات تجارية محلية أو سلاسل وعلامات تجارية أجنبية.

مؤسسات الرعاية الاجتماعية مهددة

كما لم توفّر التداعيات الدراماتيكية للواقع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم مؤسسات الرعاية الاجتماعية في لبنان التي تهتم بذوي الحاجات الخاصة. وتواجه هذه المؤسسات خطر تعليق العمل أو الاقفال إذا لم تقم الدولة بواجباتها بدفع مستحقات العقود الاجتماعية لسنة 2019.

وتأتي في السياق أزمة "مؤسسة الكفاءات" التي علّقت العمل منذ أسبوع بسبب عدم حصولها على مستحقاتها من الدولة. وهي من كبرى مؤسسات الرعاية الاجتماعية المجانية في لبنان وتضمّ قرابة 1200 طالب من ذوي الحاجات الخاصة وأكثر من 400 موظف.

وأوضح المدير التنفيذي لمراكز الكفاءات التأهيلية، ربيع سلامة لـ"العربية.نت": "إن العمل متوقّف في المؤسسة منذ أسبوع، والطلاب في المدرستين العادية والداخلية (نحو 400 طالب) عادوا إلى منازلهم".

ومع أن وزير الشؤون الاجتماعية (الوصي الرسمي على مؤسسات الرعاية الاجتماعية) بشّر بتحويل العقود خلال أسبوع، لفت سلامة إلى "أننا لا نسمع إلا بالوعود منذ أن رفعنا الصوت ولا شيء جدّياً حتى الآن".

ويوجد في لبنان 102 مؤسسة رعائية منتشرة في المناطق كافة وتضم آلاف الطلاب والموظفين.

خطر الإقفال يتسلل إلى المدارس!

وكما مؤسسات الرعاية الاجتماعية، بدأ خطر الإقفال يتسلل إلى المدارس الخاصة بسبب عجز الأهل عن دفع أقساط الطلاب نتيجة الأزمة الاقتصادية الضاغطة، وهو ما أدّى إلى اتّخاذ إدارات بعض المدارس قرارات بدفع نصف راتب للمعلمين الذين هددوا بالإضراب حتى ‏الحصول على كل رواتبهم.

وأوضح رئيس نقابة المعلمين في المدارس الخاصة رودولف عبود لـ"العربية.نت": "إن كل الاحتمالات واردة، من إقفال مدارس إلى إعلان الأساتذة الإضراب المفتوح طالما لا حل في الأفق للازمة الاقتصادية".

كما لفت إلى "أن الأساتذة فوجئوا بخفض رواتبهم من دون أن يتم إعلامهم مُسبقاً، علماً أن الإدارة كانت طمأنتهم إلى ان لا قطع لرواتبهم بسبب الحراك الشعبي". وقال "إننا ندعم أي قرار يتّخذه الاساتذة".

ويمّر اقتصاد لبنان في أسوأ أزمة منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، حيث أدى تراجع النمو وتباطؤ تدفقات الأموال من الخارج إلى شحّ في الدولار وضغوط على الليرة اللبنانية المحُدد سعر صرفها بالدولار (1515).

ويشهد لبنان منذ 17 تشرين الأوّل الفائت احتجاجات شعبية غير مسبوقة، بدأت على خلفية مطالب معيشية، ومطالبة أيضا برحيل النخبة السياسية بلا استثناء، على وقع أزمة اقتصادية ومالية مستفحلة.