+A
A-

تصنيفات لبنان تتهاوى.. بعد كل قرار مثير للجدل من "المصرف المركزي"

يرى كثيرون أن التطورات التي شهدتها تصنيفات لبنان السيادية وتصنيفات البنوك الكبرى في الأيام الماضية بأنها من التبعات المباشرة لسلسلة من الخيارات الجدلية التي اتخذها مصرف لبنان في الأسابيع الماضية، وآخرها قرار خفض الفائدة على الودائع الجديدة، وسداد نصف الفوائد على الودائع الدولارية القائمة بالليرة اللبنانية.

وخفضت وكالة "فيتش" تصنيف البلاد السيادي إلى CC، وهي ثاني أدنى مرتبة قبل التعثر. ولا مثيل لها لدى الوكالة أو يفوقها سوءا سوى تصنيف الأرجنتين (CC) التي تعثرت ثماني مرات في سداد ديونها، وتصنيف فنزويلا المتعثرة بالفعل (RD).

ثم أتبعت فيتش ذلك بخفض تصنيف بنكي "عودة" و"بيبلوس" إلى RD الذي يعني "التعثر المقيّد"، وهو تعبير تعرّفه الوكالة بأنه تعثر في سداد بعض الاستحقاقات من دون الدخول في إجراءات الإفلاس أو التصفية. وسبقتها "موديز" قبل يوم واحد بخفض تصنيف "بلوم" و"عودة" و"بيبلوس" إلى Ca، وهي أدنى مرتبة لديها قبل التعثر كامل الأوصاف.

وأعطت الوكالتان التفسير نفسه لقراراتهما، وهو أن سداد الفائدة على الوديعة الدولارية بالليرة اللبنانية يعد تعثراً في أداء الودائع وفق معاييرهما. ويعزز ذلك الفرق الشاسع بين السعر الرسمي الذي تسدد وفقه الفوائد بالليرة اللبنانية، وسعر صرفها المتداول في السوق الموازية. ما يعني أن المودع لا يحصل في الواقع على كامل الفائدة التي تعاقد عليها.

هذا يشير إلى أن قرارات خفض التصنيف قد تتوالى، سواء على مستوى التصنيف السيادي أم على مستوى تصنيفات البنوك. ولعل الأهم من بينها قرار الوكالة الأكبر والأهم عالميا "ستاندر آند بورز"، والتي خفضت تصنيف لبنان في 15 نوفمبر الماضي إلى CCC، وأنذرت بخفض آخر في مدى ستة أشهر إلى 12 شهرا، إذا زادت الأوضاع سوءا.

قرارات خفض التصنيف يلمس آثارها المواطن العادي بشكل مباشر. فنفاد السلع في متاجر التجزئة وشح البنزين في محطات الوقود مرشحان للتصاعد، في ظل الصعوبات التي تواجهها البنوك في فتح الاعتمادات لعملائها من الشركات المستوردة على نحو غير مسبوق في أسوأ مراحل الحرب الأهلية.

فالبنك اللبناني يحتاج عادة إلى تغطية من البنوك الدولية المراسلة (correspondent banks)، لسداد ثمن البضائع المستوردة. ويقول مصرفيون إنه كان من المعتاد سابقا أن يكتفي البنك المراسل بتغطية لا تتجاوز 15% من البنك اللبناني لإمضاء العملية، لكن خفض التصنيفات وظروف عدم اليقين السياسي والاقتصادي جعلت البنوك المراسلة تطلب تغطية كاملة للرصيد المطلوب.

حاول رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري التخفيف من وقع الأزمة عبر الطلب إلى قادة عدد من الدول توفير خطوط ائتمان بديلة للاستيراد، لكن قليلا من النجاح تحقق على هذا الصعيد. إذ وفر البنك الأوروبي للإعمار والتنمية خطوط ائتمان لستة مصارف لبنانية بقيمة 250 مليون دولار، وهو رقم زهيد مقارنة بحجم مستوردات لبنان التي تتجاوز 1.6 مليار دولار شهريا.

التساؤل الذي يطرح نفسه: لماذا اتخذ مصرف لبنان ذاك الخيار الجدلي بتقييد الفائدة على الودائع، مع علمه بمخاطره على النظام المصرفي الذي بناه منذ التسعينات؟

التفسير المهذب أن هذا التدبير يجعل سيولة البنوك تكفي لمدة أطول. والتعبير الصريح أن البنوك تقتطع شيئا من فوائد المودعين لإنقاذ ميزانياتها.
أتى ذلك ضمن مسار من الإجراءات لتقييد السحوبات والتحويلات. وكان من الطبيعي بعد سلوك هذا المسار الخطر أن تتآكل سيولة البنوك وملاءتها الرأسمالية. وثمة سباق الآن بين رسملة البنوك وتراجع تصنيفاتها. وما يحذره الجميع أن يؤدي انهيار بنك واحد كبير أو متوسط الحجم إلى إطلاق شرارة أزمة عاصفة، على نحو ما فعله انهيار "ليمان براذرز".

ويؤخذ على مصرف لبنان أنه أنقذ العديد من البنوك في السنوات الماضية من خلال تسليفات غير معلنة بفائدة منخفضة تم توظيفها لديه بفوائد مرتفعة، أو عبر هندسات مالية حققت للبنوك أرباحا طائلة. لكن هذه المرة، طلب مصرف لبنان من البنوك زيادة أموالها الخاصة بعشرين في المئة، أي بأكثر من 3.7 مليار دولار لتعزيز ملاءتها وقواعدها الرأسمالية.

ونصف هذا المبلغ (1.9 مليار دولار تقريبا) يفترض أن يسدد في الأيام المتبقية من العام 2019. قد يخفف ذلك شيئا من الضغوط الهائلة على القطاع إذا تم في موعده، لكن ماذا إذا تمنّع المساهمون أو بعضهم على الأقل عن المساهمة؟