+A
A-

كارلوس غصن.. كيف سقط ملك صناعة السيارات؟

كان كارلوس غصن في أوج قوته ونفوذه عندما وصل، عصر أحد أيام شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2018، إلى مطار هانيدا في العاصمة اليابانية طوكيو.

فقد كان آنذاك يشغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة نيسان اليابانية لصناعة السيارات، وكان الرجل الذي يعود له الفضل في انقاذ الشركة اليابانية من خطر الإفلاس الذي كان يحيق بها. كما كان يشغل في نفس الوقت منصب المدير التنفيذي لشركة رينو الفرنسية لانتاج السيارات، وكان المحرك الرئيسي للتحالف العالمي بين الشركتين. وشكّل التحالف - الذي يضم أيضا شركة ميتسوبيشي الأصغر حجما - مجموعة صناعية تبيع أكثر من 10 ملايين سيارة في السنة.

وتعوّد غصن على تقسيم وقته بين باريس وطوكيو، كما كان يتفقد بانتظام عمليات المجموعة الصناعية في أمريكا الشمالية. وكانت تصحب هذا السفر المتواصل محفزات، مثل حق استخدام طائرة خاصة في تنقلاته بين الوجهات المختلفة حول العالم. وكانت لغصن، المولود في البرازيل والذي كبر وترعرع في لبنان وتلقى تعليمه في فرنسا، علاقات ووشائج في هذه البلدان الثلاثة وكانت له منازل فخمة في ريو دي جانيرو وباريس وبيروت علاوة على طوكيو.

أطلق سراح كيلي، الذي يعاني من مشاكل في العمود الفقري، بكفالة بعد نحو شهر من اعتقاله، بعد أن نشرت زوجته رسالة مصورة في الولايات المتحدة اشتكت فيها بشدة من المعاملة السيئة التي كان يلقاها من قبل السلطات اليابانية.

وما زال كيلي في اليابان بانتظار مثوله أمام القضاء، وهو بعدة أوجه يعد الرجل المنسي في القضية.

وفي آذار / مارس 2019، أطلق سراح غصن لفترة وجيزة بعد أن دفع كفالة بلغت 9 ملايين دولار أمريكي، ولكن أعيد اعتقاله بتهم جديدة قبل أن يطلق سراحه أواخر نيسان / أبريل بعد دفعه ضمانا بلغت قيمته 4,5 مليون دولار.

حددت السلطات اليابانية تحركاته، وحظرت عليه الاتصال بزوجته. وحتى عندما سُمِح له بالتحدث معها عبر الانترنت ليلة عيد الميلاد - وكان ذلك امتيازا نادرا وافقت عليه المحكمة - كان ذلك مشروطا بوجود محام يستمع الى حديثهما.

قضى فيليب رايس - كاتب سيرة غصن - عدة أسابيع في طوكيو في العام الماضي، وكان يلتقي به يوميا. وقد تحدث إليه بعد هروبه، ويعتقد أن الطريقة التي عامل بها اليابانيون زوجته كانت سببا مهما لقراره بالهرب.

كانت كارول غصن - زوجة كارلوس الثانية - أقوى مسانديه. فقد كتبت بعد وقت قليل من اعتقاله رسالة شديدة اللهجة بلغ طولها 9 صفحات إلى مكتب اليابان التابع لمنظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الإنسان هاجمت فيها النظام القضائي الياباني الذي وصفته "بالقاسي والجائر". وقالت كارول في رسالتها إن القانون الياباني يسمح للجهات التحقيقية "باستجوابه وتهديده وإلقاء المحاضرات عليه وتوبيخه" بشكل يومي دون حضور محاميه.

وصل غصن إلى طوكيو في ذلك اليوم التشريني قادما من بيروت. وعندما كانت طائرته الخاصة الأنيقة تسير في أرض المطار، كان من اليسير التعرف عليها بفضل رقم التسجيل المكتوب على محركيها، إذ كان N155AN، القريب من اسم شركة نيسان بالأحرف اللاتينية.

ولكن غصن لم يكن يعلم ما الذي كان ينتظره في صالة المطار.

يقول إنه ما أن دخل الصالة، أقتيد إلى سيارة أقلته إلى قسم جوازات السفر حيث أبلغ بأن ثمة مشكلة في تأشيرته. وأخذ بعد ذلك إلى غرفة جانبية صغيرة حيث ألقي عليه القبض رسميا بتهمة ارتكاب جرائم مالية خطيرة.

وبعد سويعات من وصوله إلى طوكيو، وجد نفسه محبوسا في زنزانة.

لم يكن كارلوس غصن الهدف الوحيد. فغريغ كيلي، وهو من أقرب المقربين لغصن، اعتقل هو الآخر عند وصوله إلى مطار آخر قادما من الولايات المتحدة بعد استدعائه لحضور ما كان يعتقد أنه اجتماع طارئ.

كان كيلي الأمريكي البالغ من العمر 63 عاما يشغل منصب "المدير التمثيلي" لشركة نيسان، وكان مكلفا رسميا بتنفيذ رغبات مجلس ادارتها. ولكن عمليا، كان كيلي منفذ أوامر غصن تحديدا. وكان ينوي المشاركة في "الاجتماع الطارئ" الذي دعي إليه بواسطة الاتصال بالفيديو وذلك لدواع صحية. ولكن زوجته تقول إن الشركة أصرت على حضوره شخصيا، وبعثت بطائرة خاصة للإتيان به إلى اليابان.

نقل الإثنان بعد اعتقالهما إلى مركز احتجاز كوسوغي الواقع شمال شرقي طوكيو. مكث غصن في زنزانة صغيرة في ذلك المركز لأربعة شهور، كان يستجوب اثناءها يوميا سعيا من مسؤولي النيابة العامة لاجباره على الإعتراف.

الهروب

رغم شح التفاصيل الدقيقة، فإنه من الواضح أن عملية هروب كارلوس غصن من اليابان لم تفتقر إلى الإقدام والخطورة وكان مخططا لها بشكل محكم.

لم تتسم مغادرته لمسكنه في طوكيو بالسرية على الإطلاق. ففي ظهر يوم الـ 29 من كانون الأول / ديسمبر 2019، خرج غصن راجلا من المبنى على مرأى ومسمع الجميع.

كانت اليابان آنئذ تستعد لعطلة السنة الجديدة، ومن الممكن أن اجراءات الأمن كانت أخف من المعتاد.

وحسب ما أوردته التقارير الاعلامية اليابانية، أظهرت تسجيلات كاميرات المراقبة غصن وهو يتوجه إلى فندق مجاور حيث التقى برجلين. ويعتقد الآن أن هذين الرجلين هما مايكل تايلور، العنصر السابق في القوات الخاصة الأمريكية والذي يعمل الآن متعهدا أمنيا خاصا، وشريكه اللبناني جورج أنطوان زايك.

ويعتقد أن الرجال الثلاثة استقلوا قطارا سريعا للسفر من طوكيو إلى أوساكا في رحلة استغرقت ساعتين ونصف الساعة.

كانت مخاطرة كبرى، ففي ذلك اليوم كان القطار مكتظا بالركاب الذين كانوا يسافرون لقضاء العطلة مع ذويهم. وكان غصن شخصية معروفة جدا في اليابان وكان التعرف عليه يسيرا جدا. ولذلك، ولأجل تقليل الخطر اعتمر قبعة وغطى وجهه بقناع طبي وهو أمر اعتيادي جدا في اليابان لدرء مخاطر العدوى ومنع انتشار الرشح.

وبعد وصولهم إلى أوساكا، توجه الثلاثة إلى أحد الفنادق. وبعد ساعات، حسب ما قالت شبكة NHK التلفزيونية اليابانية، غادر إثنان منهم الفندق وتوجها إلى المطار، ولكن لم يستدل على أي أثر لغصن. ويعتقد الآن أنه كان مختفيا في حقيبة أمتعة كبيرة، واحدة من حقيبتين كان الرجلان يصطحبانهما.

وفي المطار، حمّلت الحقيبة في طائرة خاصة، وبذا غادر غصن اليابان كما وصل إليها قبل أكثر من سنة - على متن طائرة خاصة. وبينما كان غصن يعد لدى وصوله امبراطور صناعة السيارات، غادر اليابان وهو مطارد ومتخف في حقيبة.

هذه هي القصة التي ذاعت على نطاق واسع. ولكن في مقابلة صحفية مطولة أجراها معه مراسل بي بي سي جون سيمبسون في بيروت، رفض غصن رفضا باتاٌ تأكيد تفاصيل هروبه، عدا القول إنه بارح مسكنه في طوكيو سيرا على الأقدام.

وعندما سئل عن شعوره وهو مختبئ داخل حقيبة، ضحك ثم نفى نفيا قاطعا أن ذلك حصل بالفعل.

وقال، "لا أعرف ما الذي تتحدث عنه، فربما كانت المرة الأخيرة التي اختبأت فيها في حقيبة عندما كنت ألهو وأنا طفل صغير."

وقال، "لا أتذكر هذه الحادثة، ولذا لا يمكنني التعليق عليها."

وتشير تقارير إلى أن الطائرة التي كانت تقل غصن ورفيقيه غادرت اليابان حوالي الساعة 11 ليلا متوجهة إلى تركيا.

وحال وصول الطائرة إلى اسطنبول، استقل الثلاثة طائرة أخرى. تمت العملية بسرية تامة، ولم يدخل غصن تركيا بشكل رسمي. واقلعت الطائرة الثانية بعد وقت قصير وتوجهت إلى بيروت.

حصل كل ذلك على ما يبدو دون علم الشركة المالكة للطائرتين، إذ تقول هذه الشركة - واسمها MNGJet - إنها أجرت طائرتين لزبونين مختلفين، وإنه لم تكن هناك علاقة ظاهرة بين اتفاقي التأجير.

وتصر هذه الشركة على أن اسم غصن لم يرد في أي من الوثائق الرسمية المتعلقة بالرحلتين الجويتين. وقررت اجراء تحقيق داخلي وتقدمت بشكوى جنائية لدى السلطات التركية حول الاستخدام غير المشروع لخدماتها. وتقول الشركة إن أحد موظفيها اعترف بتزوير السجلات الخاصة بالرحلتين.

وألقت السلطات التركية لاحقا القبض على سبعة اشخاص بشبهة التورط في القضية، منهم 4 طيارين يعملون لصالح MNGJet بعقود. ولكن ليس من الواضح إن كان هؤلاء على علم بوجود كارلوس غصن في الرحلتين.

وبالرغم من ترتيبات السفر غير التقليدية التي اتبعها غصن، نعلم بأنه دخل لبنان بشكل قانوني باستخدام جواز سفر فرنسي وبطاقة هوية لبنانية.

ولكن، وفي نهاية المطاف، ومهما كانت العواقب بالنسبة للمتورطين في العملية، فإنها تكللت بالنجاح التام. فكارلوس غصن وصل إلى لبنان واحتفل بحلول السنة الجديدة مع زوجته وبدأ بالاستعداد للدفاع عن براءته أمام العالم.

كيف تدهورت الأمور؟

كان كارلوس غصن في أوجه عملاقا في مضمار صناعة السيارات، وكان له الفضل في تشكيل واحدة من أكبر وأقوى مجموعات تصنيع السيارات في العالم.

كان غصن يعرف في فرنسا "بقاتل النفقات"، ويعود له الفضل في انقاذ شركة رينو عندما كانت تترنح في نهاية تسعينيات القرن الماضي. أما في اليابان، فكان يُنظَر إليه بوصفه الأجنبي الذي جيء به لانقاذ نيسان من براثن الإفلاس، وأصبح لاحقا من المشاهير الذين يشار اليهم بالبنان.

وفي الحالتين، تحدى غصن مؤسسات عريقة وصارع مصالح متجذرة وذلك باغلاق العديد من المصانع وتسريح العاملين فيها على الأمد القصير، ولكنه مهد الطريق للنمو والعودة إلى الربحية في المستقبل.

ارتبطت نيسان ورينو بموجب تحالف استراتيجي أبرم في عام 1999، وانضمت شركة ميتسوبيشي الأصغر حجما إلى هذا التحالف في عام 2016. وبحلول عام 2017، كانت هذه المجموعة تنتج أكثر من 10 ملايين مركبة سنويا. وكان غصن، باعتباره المدير التنفيذي لرينو ورئيس مجلسي ادارة الشركتين اليابانيتين، محور المشروع بأسره. ولكن ثمة مشاكل كانت تعتمل تحت السطح.

فاليابانيون كانوا يستشيطون غضبا عندما تأتيهم قرارات من باريس.

يذكر أن الحكومة الفرنسية تمتلك حصة كبيرة من أسهم رينو، وتمكنت في عام 2015 من مضاعفة حقوق التصويت في تلك الشركة، معززة بذلك نفوذها على القرارات التي يتخذها مجلس ادارة رينو بشكل كبير. كان هذا أمرا خطيرا بالنسبة لنيسان، إذ إن رينو ليست شريكتها فحسب بل أكبر المساهمين فيها أيضا.

كان هذا يعني، بكل بساطة، أن القرارات السياسية الصادرة في فرنسا - والتي تراعي المصالح الفرنسية بشكل أساسي - سيكون لها أثر كبير على شركة نيسان.

بحلول عام 2018، كان نفوذ الحكومة الفرنسية يزداد وضوحا. مُنِحَ غصن تفويضا جديدا ضمن له مواصلة ترؤس رينو لأربع سنوات أخرى. ولكنه كان يتعرض أيضا لضغوط كبيرة من جانب باريس لاجباره على جعل التحالف "غير قابل للانفصام".

كان غصن يخطط - وكما أكد في مؤتمره الصحفي الذي عقده في بيروت أوائل كانون الثاني / يناير - لبناء هيكل جديد لتحالف رينو-نيسان. وتشمل خططه تأسيس شركة قابضة مساهمة واحدة، وستملك هذه الشركة شركتي رينو ونيسان، ولكن الشركتين ستداران بشكل مستقل إذ سيكون لهما مقراهما وستحتفظان بهويتيهما المتميزتين.

كما كان غصن يريد ادماج شركة فيات كرايسلر الأمريكية الايطالية في التحالف، مما يحوله إلى منتج عالمي هائل الحجم لا يمكن مواجهته.

ولكن من الواضح أن هذه الخطط استقبلت بشكوك عميقة في اليابان.

يقول عليمون من داخل نيسان إن المديرين الكبار في الشركة كمديرها التنفيذي هيروتو سايكاوا كانوا يشعرون بالضعف نتيجة تدني أدائها. وكان هؤلاء يعتقدون أن تعزيز الأواصر مع رينو قد يقوض سلطتهم واستقلاليتهم. وكانوا يخشون أن تتحول نيسان إلى مجرد فرع لمجموعة عالمية وأن تفقد هويتها اليابانية.

يقول غصن إن مسؤولين في الحكومة اليابانية كانوا يشاركون مديري نيسان قلقهم، مضيفا أن هؤلاء المسؤولين انخرطوا لاحقا في تحركات تستهدفه. إذا كانت تلك هي الحقيقة أم لم تكن، فمن الواضح أن التوتر في نيسان بلغ أوجه في أواسط عام 2018، وأن موقع غصن أصبح حرجا دون علمه.