العدد 4222
الأربعاء 06 مايو 2020
banner
عليك بالبيت: رهين المحبسين
الأربعاء 06 مايو 2020

في خضّم الأمواج المتلاطمة لجائحة “كورونا” والعدوى التي تزدري بالحدود التي أقامها البشر بين البلدان والقارات.. يؤمر الناس بالبقاء في بيوتهم حتى يأذن الله بالفرج.

ويترتب على ذلك أن يتعود الفرد على العزلة، وأن يقصي نفسه عن فضاء الله الواسع في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يقبع في فضاء بيت تخفق الأرياح فيه أو لا تخفق.

والمحظوظ من الناس من أنعم الله عليه بدار سكن فسيحة ذات فناء واسع وإطلالة جميلة ومتسع لحديقة ومسبح ورياضة واستجمام.

ولكن معظم الناس لا يتمتعون بذلك النوع من البحبوحة والثراء. فتراهم عاكفين ما بين منزل محشور بين المنازل وممر ضيق ومعيشة ضنك. على أنهم مع ذلك ربما كانوا أحسن حالا من سكان الشقق الشعبية المكدّسة بعضها فوق بعض.

وأولى بأؤلئك وهؤلاء أن يكون لهم النصيب الأوفر من الرعاية وتذليل الصعاب.

والناس في لزوم البيت قسمان: فيهم من يشعر بأن البقاء في المنزل أمر اضطراري يقبله على مضض كمن يتجرع كأسا مريرة.. ولعلهم من النوع الذين لا يجدون في ملء الوحدة والفراغ حيلة ولا وسيلة أو أن لهم مزاجا خاصا في التعامل مع أفراد الأسرة.

بينما يجد الآخرون، وهم كثر، أن في البيت لباسا وسكنا ومودة تجمع الشمل وتؤلف القلوب، وتفتح أبوابا لاستعادة ذكريات الأيام الجميلة.

ومن جميل ما صنعته الدولة وأجهزتها التنفيذية توجيه جميع وسائل الإعلام والبرامج التلفزيونية ووسائل الاتصالات لملْء الفراغ عند من يضيقون بالمنزل ذرعا. يساندهم في ذلك كتاب الصحف، إذ يتم حض الناس على إدمان القراءة والتعلم ومزاولة الرياضة وسائر ما يملأ أوقات الفراغ بما في ذلك ممارسة الهوايات اليدوية والفنية والكتابة.. ثم فنون الطبخ والمأكل والمشارب لربّات البيوت.

وكل ما تقدم في مجال ملء الفراغ في المنزل لا يعادل ما يتجدد في المنزل من تأليف للقلوب.

يقول أحد الشعراء:

وقالت لي سهى: أتحبّ غيري؟.. فقلت لها وحقّك لا أحبُّ

تخذتك دونهنّ هوى مقيما.. له بيت وناصية ودربُ.

في كتابه “قلبك معي” كتب أنيس منصور عن العزلة المنتجة “المفكر والفنان يختار العزلة.. يختار الابتعاد والانطواء وراء باب ضيق”.

وفي هذه العزلة تتولد المعاني. في الفلسفة وجدنا الرهبان في الصوامع أبدعوا الموسوعات والقواميس. الأديب سيرفانش دخل السجن وكتب روايته الرائعة (دون كيخوته)، وفولتير كتب ملحمة شعره وهو في سجن “الباستيل” ونهرو كتب في سنوات سجنه الطويلة “لمحات من تاريخ العالم” والرحالة ماركوبولو أملى رحلاته على أحد نزلاء سجنه.

واوسكار وايلد كتب وهو في السجن كتابه “من الأعماق”.

المبدعون يجدون حريتهم في العزلة من وراء الجدران.

وقد فات الكاتب أنيس منصور أن يضرب مثلا عربيا كالشاعر الفارس (أبو فراس الحمداني) الذي تدفق شعره وهو في سجنه لدى الروم.. أو بشخصية عربية إسلامية ذات حكمة وعبقرية وروح إنسانية صافية، نسجت خيوط فلسفنها وبنات أفكارها في عزلة البيت، ألا وهو الفيلسوف والشاعر الحكيم أبو العلاء المعري الذي اختار لنفسه أن يلقّب بـ “رهين المحبسين”.

الحبس الأول هو كونه فاقدا البصر، والثاني أنه كان ملازما للبيت، وحبس آخر أنه حبس نفسه على أكل الخضار والعدس خصوصا بدلا من أكل اللحوم والبيض والألبان... ثم إنه إضافة إلى دواوين شعره، أصدر مجموعة أشعار سميت بـ “اللزوميات”، إذ التزم فيها المعري 3 أحرف أو أكثر في قوافي الأبيات ما جرت تسميته بـ “لزوم ما لا يلزم”.

يذكر أن المعري لما مرض جاءوا إليه بفرخة دجاج مطهوة لتمده بشيء من القوة، فأخذ يقلّب تلك الفرخة بيديه ويتلمسها وهو يقول: “استضعفوك فوصفوك.. هلا وصفوا قلب الأسد!”، ثم ألقاها ولم يطعمها.

وسجن آخر للمعري التزامه بعدم الزواج، وأوصى أن يكتب على قبره هذا البيت:

“هذا جناه أبي عليّ.. وما جنيت على أحد”.

وفلسفة المعري ومعضلته التي جلبت الأنكار عليه من أهل زمانه هي أنه كان يفكر خارج الأطر الموضوعة في زمانه في مقابل رجال الدين والدعاة والصراع بين المذاهب والطوائف.

مدح أهل زمانه عبقريته في الشعر الإنساني وأنكروا عليه فلسفته وعقيدته.

قال في الدعاة ما سبب غضبهم مثل قوله:

“علم الإمام ولا أقول بظنه.. أن الدعاة بسعيها.. تتكسّب”.

ومن المعروف عن المعري أنه كان يقدس العقل ولا يعمل بغيره وهو القائل (كذب الظن، لا أمام سوى العقل) ومن أقواله أيضا:

“بني زمني هل تعلمون سرائرا.. علمت ولكنّي بها غير بائح”.

وقوله:

“غدوت مريض العقل والّدين فالقني.. لتسمع أنباء الأمور الصحائح”.

تلك الأبيات استفزت داعي الدعاة الفاطمي، وهم ممن تظاهروا بالاحتكام إلى العقل شأن المعري، فأرسل إلى أبي العلاء المعري يطلب منه القدوم للمناظرة في شأن العقائد والعادات، متذرعا بعبارات التواضع المصطنع في قوله: “شددت إليه (يقصد المعري) راحلة العليل في دينه وعقله إلى الصحيح الذي ينبئ أنباء الأمور الصحائح. وأنا أول ملبّ لدعوته معترف بحيرته، مغترف من بحر إرشاده وهدايته...”.

ولا يخفى على المعري بذكائه ما تنطوي عليه الدعوة إلى البلاط الفاطمي من مكر فيعتذر عن القدوم بلغة متواضعة مبطنة، مبديا ضعفه ودقة عظمه ورقة بدنه ويقول: “من أنا حتى يكتب إلي.. مثله في ذلك مثل الثريا الطالعة تكتب إلى الثرى، وهو لا يسمع ولا يرى”.

وهكذا آثر المعري البقاء في داره والاكتفاء بتبادل 5 رسائل من المناظرات بينه وبين داعي الدعاة الفاطمي: هبة الله الشيرازي.

وقيل إن المستنصر الفاطمي بذل للمعري كل ما في بيت مال المعرّة لاستمالته للفكر الإسماعيلي وزحزحته عن بيته للقدوم إليه.. ولكن المعري لم يقدم أسلوبا مراوغا ولغة مبّطنة للاعتذار بلطف.. وهو يعلم أن معرة النعمان خاضعة آنذاك للسلطة الفاطمية.

وختاما، فليس حديثنا اليوم هو حديث المعري وشرحه يطول، وإنما هو لتوضيح كيف يمكن لملازم البيت أن يكون مبدعا ومفيدا ونافعا لمجتمعه ولنفسه ولأهله وذويه.. والله يؤتي الحكمة من يشاء.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .