العدد 4271
الأربعاء 24 يونيو 2020
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
شكرا لجلالة الملك على قانون العقوبات البديلة
الأربعاء 24 يونيو 2020

كتبت مقالي والبحرُ جالس على ذراعي يقرأ ما أكتب، والشمس تشرق على أصابعي وتأمرني أن أسهب، أما الضوءُ، فكان يقبل شفتي الكلمات، ويصرخ فيّ: اكتبْ اكتب. عندما يضيق بي الخناق ألتجئ للطبيعة كما كان يفعل بيتهوفن. عندما يخنقني الدمعُ ألتجئ إلى البحر، أجلس أمام عينيه، أسكب دمعي أمامه، يحضنني، يخرج منديلا من جيبه كشراع، ويكفكف كل الدمع، مع البحر ما أجمل هذا الجمع. طالما احتضنتنا الأرصفةُ بأذرعها تكفكف دمعنا، وتوسد ركبها لرؤوسنا، تحجب الضوء، وتصرخ في الريح ألا تأتي بضجيج.

كم رصيف يحن وعلى وجع حبيب يئن. تغرقني أصوات الأمهات العازفات لحن الوجع.. يأسرني صوت أبٍ متهدج عبر الهاتف، وهو ينثف وجعه: سيد، اكتب عنا، نحن المثقلين أطنانَ دموعٍ وصناديقَ شموع، وأوصل صوتنا بأننا أهالي المحكومين في السجن نجد في قانون العقوبات البديل أملا للخلاص... هاتفني والدمع يسبق قوله: يا سيد، والدة ابني تقول: “كل خوفي أن أركن ذات يوم للنوم، واستسلم للغياب بلا رجوع، فلا أحظى بلقاء ولدي مرة أخرى”. وعلى شارع البديع، رحت أفتش عن جرح يتحدث عن ألم ينسج منتهاه..

عن دمعة لا تخشى جلد الفتاوى النائمة في أكياس الخيال، عن أفئدة تنام على الطرقات، تستجدي هطول المطر.. وتفكر في حمائم تطير مع الفرح. طرقت الباب، دلفت إلى بيت قديم متهالك كمواطن آيل للسقوط. استقبلتني أم وقسمات الحزن على وجهها أرشيف خطوط لحكاية قديمة جديدة، دلفت معها إلى مكان استقبال الضيوف مع صديقي.. رأيته متكوما على كتابه، شاب في نهاية العشرين خرج قبل أشهر من السجن عبر قانون العقوبات البديلة بعد أن قضى ستة أعوام.. شاب يحمل بداخله قلب طفل ونهم معرفة الحياة. راح يقص عليَّ الحكاية. كان قد حصل على شهادة التفوق في الثانوية. جلسنا على الأرض كما هي مجالس البحرين القديمة.

سألته عن أصدقائه في السجن، فراح يرتل عليَّ مزامير الوجع ويقول متأوها: “كلهم يريدون الخروج بقانون العقوبات البديلة”. لمحت بين يديه كتابا علميا باللغة الإنجليزية، سالته ما هذا الكتاب؟ فأجاب: أنا أدرس الآن تخصصا علميا لشهادة مرتقبة أطمح الحصول عليها بعد انتهائي من العقوبة. أريد أن أشق طريقي في الحياة، وأرتب أثاث مستقبلي، وأتزوج وأعيش كبقية الناس. قلت له: طر مع النوارس.. عش ثقافة الحياة، أكمل الجامعة، البس أجمل اللباس، تأنق ككرستيانو.. تعلم بيانو كموزارت.. اسمع موسيقى بيتهوفن.. سافر لأوروبا، واذهب بأبنائك إذا وفقك الله إلى حديقة “ديزني لاند” في باريس.. ارقص مع الطبيعة... خذ بيد زوجتك المستقبلية، واحجزوا لكم غرفة ولو ليومين في “سانتوريني” في اليونان، أو كومو في ميلانو، المهم أن تعيشوا... يا ولدي، ليس مكتوبا عليكم الشقاء.

إن شعار “القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة” هذه مقولة قالتها زينب (ع) في ظرف زمني خاص. لا عليك من السياسيين، إنهم لا يفهمون التاريخ أو إنهم يعبثون بمقولاته لصالح دكاكين إقليمية. يا ولدي “الحياة لكم عادة، وكرامتكم من الله السعادة”. ارفع شعار “انا الدكتور التالي”، وليس “الشهيد التالي”، استبدل شهادة الوفاة بالشهادة الجامعية، أبناء السياسيين ليسوا أفضل منكم... ليس مكتوبا عليك الموت، ولست منذورا للعذاب، من يحب كربلاء لابد أن يعيش، لا أن يموت في مطاحن الحروب.

من قال لكم إن الحياة تكمن إما في سجن أو مقبرة أو منفى على طريقة البيانات القادمة من إيران ولندن وبيروت؟ يا ولدي من قال إن محبة الإمام الحسين (ع) أن أواجه كل العالم بشعارات ثورية..؟ اثنا عشر إماما، كلهم كانوا يتعاطون بحكمة وعقل مع حكوماتهم، والإمام الحسين (ع) كان يقول لو وجد مندوحة من عدم الموت أو لو تركوه لذهب إلى اليمن. أنا على استعداد مناقشة علية القوم فقهيا وسياسيا وتاريخيا وأنثربولجيا وفلسفيا؛ لأثبت خطأهم في ذلك.

هل سمعت يا ولدي إمام جمعة أو خطيبا حثكم عن أهمية الاقتصاد أو ثقافة الحياة أو طرق السعادة أو كيف تتأنق أو كيف تشذب لحيتك أو تضع عطرا أو طيب الحديث؟ يا صغيري أنا أفهم أهل البيت (ع) وعليا والحسين سعادة وحضارة وعقلا. مفهوم الأئمة (ع) أن توزع الحب، أن تكره الكراهية.

الإمام علي سيد الحكمة والمنطق صوت الإنسانية.

أن تحب أهل البيت أن تكون قريبا من الله أخلاقا، وأن تحمل أوسع ثقافة متنوعة.. أن تكون في قمة الأناقة، وأن تقدس الجمال والفن والموسيقى والطبيعة وأن تتحدث بلباقة مع الناس. يا ولدي، الإمام علي (ع) عنده أحاديث يركز فيها على فن الإتكيت والخلق في مخاطبة الملوك وعلية القوم.

عش حياتك، كن رياضيا لا تترك “الجم)”، واخرج أمام العالم بأجمل هندام، والبس أجمل الألوان وقِ نفسك اقتصاديا، وسافر أجمل البلدان، وفوق كل ذلك كن أمينا وصادقا، وكن الإنسان، لا تتعصب لمذهب، ولا لعقيدة، ولا للون.. أحبب المسلم والمسيحي واليهودي، ورسخ مملكة الإنسان، وكن مخلصا لقيادتك، ولوطنك ولشعبك ومهما حاول السياسيون، دولا أو سفارات أو زعماء اللعب على أوتار الجوع للاقتراب من خدش وطنيتك أو ضرب سيادة وطنك أو اللعب بالولاء لقيادتك أو استغلال مشاكلك الاقتصادية كن لهم بالمرصاد.

يا عزيزي، سافر لزيارة الحسين (ع)، وقبّل ضريح إمامنا العظيم الإمام علي، وحج بيت الله، وأيضا سافر باريس، وتنعم بطبيعة أوروبا، واذهب لشواطئ إيطاليا، واذهب للنوم في عين “زلامسي”، لا يوجد تناقض بينهما.

يا ولدي، يقول محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. البس أي لباس تحبه.. ولا تلتفت لرضا أو غضب الآخرين.. قص شعر رأسك بأي طريقة تحبها.. اذهب إلى السينما، تمتع بأفلام براد بيت أو شاروخان.. ارتد أي “جينز”.. اذهب إلى الساحل، هذه حياتك، ولن تعيشها مرتين، وليس فيها ما يغضب الله. ومهما كان الحزن، تجاوزه، “إن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان”.

لا عليك من هوس الفتاوى، فهذا ليس حراما... لا أحد له ولاية على حياتك الخاصة. من أعطاهم الوصاية علينا لكي يخربوا الذوق العام..؟ ليست مشكلتنا، إنها مشكلتهم إذا كان بعضهم يعاني من وسواس قهري، ومرض سيكولوجي إلى درجة يقولون لك: “إذا جلست امراة على كرسي، وذهبت، وجئت أنت لتجلس على ذات الكرسي، فلا تجلس؛ لأن حرارة جلوسها ما زالت عالقة”، هؤلاء يعانون من عقدة اسمها المرأة ووسواسيون إلى درجة الغثيان والشفقة.

أنا درست إلى مرحلة البحث الخارج فقهيا.. هذا هراء يفضحه الدليل العقلي والنقلي. الحرام أن تقود الناس لمحرقة الموت، وتجعل آباءهم وأمهاتهم يتعذبون طيلة عمرهم بسبب فقدانهم فلذات أكبادهم نتيجة سياسة غير مدروسة، وشعارات غير واقعية تقوم على المراهقة السياسية.

شكرا لجلالة الملك على قانون العقوبات البديلة.. شكرا لك أبا سلمان، فكل الشعب يقدم لك فائض العرفان على هذا القانون، وأنا تصلني يوميا عشرات الاتصالات يقدمون الشكر لجلالة الملك على هذا الموقف النبيل، وكلنا تطلع وأمل بأن تستمر هذه الإفراجات، ونرى أبناءنا هانئين، ويشقون طريقهم للحياة. ذات يوم سننثر كل الورد والياسمين، ونصدح بالأهازيج، ونحن نرى عناق الأم للابن، وجلوس الولد على مائدة رمضان مع أهله، ونزفه عريسا مع بقية الأعراس، ويكبر في أعيننا، وهو يحمل كتبه الجامعية ذاهبا إلى الجامعة. مهما كانت البيانات التي تأتي من إيران أو لندن أو بيروت وتسعى لقتل أي بارقة أمل لخروج أبنائنا حاربوها. ارفعوا صوتكم، لا تخافوا أحدا. هؤلاء هم الذين يؤخرون خروج أبنائكم من السجن، فهم منعمون مع أبنائهم في لندن وإيران وبيروت، ويعيشون بأفضل الأماكن.

السجن قاتل، والحرية حلم كل إنسان في الحياة. اقرأوا قصة عظيم الأدب دوستويفيسكي وهو في السجن، أو مذكرات الأديب الفرنسي جان جنيه أو ما حل بالأديب الأيرلندي اوسكار وايلد، أو بودلير في محكمة باريس، أو غوستاف فلوبير؛ بسبب رواية مدام بوفاري، أو ماركيز دي ساد، كلهم كرهوا السجن، ويفضلون الحرية.

أقول: الذين يرفضون القانون نقول لهم ماذا لو تحول القانون من العقوبات البديلة إلى الزعامات البديلة، والعوائل البديلة؟ فهل سيقبلون أن يدخلوا السجن مكان السجناء، ويستبدلوا أبناءهم الموجودين في بيروت ولندن وإيران مكان هؤلاء الأبناء السجناء؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية