العدد 4317
الأحد 09 أغسطس 2020
banner
مبادرات الحداثة في العالمين العربي والإسلامي
الأحد 09 أغسطس 2020

يدرك مفكرو ومثقفو ونخب الشعوب العربية والإسلامية أن تقدم وخلاص هذه الشعوب يكمن في محاولة أو إعادة محاولة الالتحاق بركب الحداثة.


ولقد ظل المهتمون منهم بهذا الشأن يتجادلون حول تحديد من كان المسؤول عن تبني مبادرات الحداثة في العالم العربي والإسلامي، أهي الأنظمة الحاكمة أم النخب العربية والإسلامية، ومن منها كان المسؤول عن إجهاضها وتعثرها؟


وأعتقد بأن هذا السؤال أو الجواب عليه سيبقى مثار جدل واختلاف بينهم على الرغم من عدم أهميته، فالأهم من هذا السؤال، والحقيقة هي أنه لا فرق سواء انبثقت تلك المبادرات من الأنظمة أم من النخب، أو من قمة الهرم أم من قاعدته، فإن تحقيق الحداثة لا يتم إلا عندما تتشكل عناصر ومنظومات البنى الفكرية والعلمية للمجتمع، وتكتمل حالات الوعي والنضج المجتمعي بحيث يحصل التوافق والتعاضد بين مكونات المجتمع.


والحداثة بإيجاز شديد هي أولًا منظومة فكرية جامعة، قائمة على الحق في الاختلاف، وعلى قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وعلى رأسها الحياة والحرية والكرامة والتي يتم نقلها من الحيز الفكري والنظري إلى الواقع السياسي والعملي، فالحرية الفكرية تنتج النظريات العلمية التي تؤدي بدورها إلى الاختراعات والتقدم التقني والاقتصادي.


والحداثة هي عملية الانتقال من حالة قديمة إلى عصر أو حالة جديدة مرتبطة أساسًا بالتطورات الفكرية والاجتماعية والثقافية، ومتصلة بالابتكارات والفنون والعلوم والاختراعات والاكتشافات ونظم إدارة الدولة الحديثة ومؤسساتها، وتتحقق كحصيلة لعمليات تراكمية تتجلى في حركات نهضوية وإبداعية وإنتاجية، هدفها تجديد أو تغيير أنماط التفكير والسلوك والعمل بما يؤدي إلى ولادة جديدة لمجتمع يحكمه عقل وفكر قادرين على استيعاب تجلياتها والانسجام معها.


والحداثة لا تتنافى مع الدين أو تتناقض مع الأصالة، وهي تختلف عن التحديث؛ وللتوضيح فنحن في دول مجلس التعاون بلغنا مرحلة متقدمة من التحديث، إلا أننا لا نزال بعيدين عن تحقيق الحداثة التي نحن في أمسّ الحاجة إلى استيعابها فكرًا ونهجًا وعملًا لتعزيز قدرتنا على المضي نحو التقدم والتطور والازدهار.


ولا أعتقد بأن أحدًا يصدق بأن الأنظمة الحاكمة قادرة أو تستطيع أن تنجح في التصدي وإجهاض مبادرات الحداثة إذا انطلقت من مرتكزات وقواعد فكرية واضحة ومن قلب المجتمع بقيادة نخبه ومفكريه ومثقفيه، وإنني لم أطلع على أي تجربة تثبت خلاف ذلك، لكن التاريخ مليء بالتجارب والحالات الصارخة لتصدي وممانعة المجتمعات بمكوناتها ومؤسساتها التقليدية المحافظة لمبادرات الحداثة التي تتبناها الأنظمة، وقد نجحت في عرقلتها والإجهاز عليها، أو أنها توارت مضطرة أمام تيارات الحداثة ثم استجمعت قواها من جديد وانقضت بعنف وعنفوان أقوى، وفتكت بما تحقق من تلك الإنجازات، حدث ذلك في تركيا عندما أجهز كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى على بقايا الإمبراطورية العثمانية المريضة، وقاد الأمة التركية في عملية فراق وانتقال من نظام الدولة التقليدي والتحول إلى نظام الدولة الحديثة عندما بدأ سعيه في العام 1923 لتحقيق الحداثة بتدشين قوالب وبرامج التحديث التي شملت المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وألغى كل أو معظم أنظمة ومؤسسات العهد السابق، وقام بفصل الدين عن الدولة في إطار تنظيم علاقة المؤسسة الدينية بالدولة، وألغى استخدام الأحرف العربية واستبدلها باللاتينية في خطوة رمزية ضمن جهوده الهادفة إلى قطع ارتباط تركيا بالشرق والعالم الإسلامي.


وفي خطوة رمزية أخرى تهدف إلى التقرب للغرب وترميم علاقة تركيا بدوله، والتنصل من تبعات بعض جوانب تاريخ الدولة العثمانية، قام بتحويل “الجامع الكبير الشريف لآيا صوفيا” إلى متحف، وقد كان هذا المبنى في الأصل كنيسة أو كاتدرائية منذ العصر البيزنطي بناها الإمبراطور جستينيان الأول في العام 537م كأكبر مبنى في العالم في ذلك الوقت، والذي اعتبر رمزا للحضارة البيزنطينية وجوهرة عمارتها، وفي العام 1453 فتح العثمانيون القسطنطينية، وتم تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد.


كان كمال أتاتورك عسكريًا، وتوفى في العام 1938 معتقدًا أنه حقق لتركيا في 15 عامًا ما يجعلها تنطلق وتحلق بسهولة في آفاق الحداثة، مع أن تحقيق الحداثة في أوروبا مسقط رأسها، احتاج لقرابة ثلاثة أو أربعة قرون.
ومن الواضح أن أتاتورك لم يدرك بأن الحداثة لا تُنجز من الأعلى فقط، ولا تتحقق باستخدام القوة، ولا تنجح من دون توفر المرتكزات والقواعد الفكرية والعلمية اللازمة لتدعيمها وترسيخها، فحدثت الانتكاسة أو الردة بعد أقل من 80 عامًا عندما تحرك “الحرس القديم” وانتفضت قوى الممانعة ومؤسساتها التقليدية المتربصة، فتسلم حزب العدالة والتنمية السلطة في العام 2002 وبدأ العد التنازلي للتراجع وللعودة إلى الفكر التقليدي وإلى أحلام عصر الإمبراطورية العثمانية المنقرض، وإلى المفهوم المتخلف للقوة والعظمة عن طريق الاستبداد والسيطرة والتوسع.


في إيران حدث الشيء نفسه، فبعد عامين من تولي أتاتورك السلطة في تركيا، تولى السلطة في بلاد فارس الشاه رضا بهلوي (سميت إيران لاحقًا) العسكري الذي أطاح بحكم الدولة القاجارية فيها، ووضع قضية الحداثة على رأس أولوياته محاولًا تتبع خطوات أتاتورك الإصلاحية، فبادر فور توليه السلطة، وبالقوة أيضًا، وفرض إصلاحات وصف بعضها بالسطحية أو القشرية أو الاستفزازية مثل إجبار النساء على خلع الحجاب، والرجال على لبس الزي الغربي من ضمنه القبعة.


وبعد أن تمت تنحيته عن الحكم من قبل الروس والبريطانيين في العام 1941، تولى السلطة ابنه الشاه محمد رضا بهلوي إبان اشتداد الحرب العالمية الثانية، فواصل مسيرة والده التحديثية مدشنًا ما أسماه بـ “الثورة البيضاء” التي شملت على بناء شبكة طرق برية وسكك حديدية، ومطارات والعديد من السدود ومشاريع الري، واستصلاح الأراضي وإعادة توزيعها على المواطنين، والقضاء على الأمراض المتفشية مثل الملاريا، وتشجيع ودعم التنمية الصناعية، والارتقاء بمستوى التعليم ومكانة المرأة والخدمات الصحية وغيرها من الإصلاحات، إلا إن كل ذلك جاء بأوامر عليا ودون مشاركة المجتمع في اتخاذ القرار، ومن غير إرساء القواعد والمرتكزات الفكرية والعلمية المطلوبة، وبالتغافل عن حقيقة أن الحداثة والقمع والاستبداد لا يمكن أن تعيش في مكان واحد، فجاءت الردة أو الانتكاسة الكبرى عندما هرب الشاه من إيران بعد أن انفجرت في وجهه الثورة الإيرانية في العام 1979 بقيادة الإمام الخميني التي أدارت العجلة إلى الوراء، وأعادت هيمنة المؤسسات الدينية والتقليدية على كافة مفاصل ومرافق الحياة في الجمهورية الإسلامية.


إن مؤسسات الموروث الديني التقليدية وقوى الفساد والدكتاتورية  في العالم العربي والإسلامي لا تفتقر إلى الإرادة ولا تنقصها القدرة على تعطيل أو تأخير أو إجهاض أي محاولة لتحقيق الحداثة في الدول العربية والإسلامية، وهي بطبيعة الحال عازمة على ذلك حماية لمواقعها ومصالحها، وبذريعة أن الحداثة قوة أجنبية غازية يجب مقاومتها والتصدي لها حماية لقيمنا ومعتقداتنا، كما كان حال المؤسسة الدينية الرجعية في أوروبا قبل أن تكتسحها منجزات الحداثة.


في وقفة أخرى قادمة سنحاول التوقف عند تجارب محمد علي باشا والشيخ عيسى بن علي آل خليفة ونجله الشيخ حمد بن عيسى وجهودهم في تحقيق الحداثة في مصر والبحرين.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية