+A
A-

جورج يَرَق: النقاد المتخصصون نادرون والزمن أفضل غربال

النسخة الإنجليزية لروايته

 

أُختيرت النسخة الإنجليزية من رواية "حارس الموتى" للكاتب اللبناني جورج يرق في عداد خمس عشرة رواية مرشحة لنيل جائزة "بانيبال" 2020. وسبق أن وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، البوكر 2016، وصدرت ثلاث طبعات منها في غضون سنة. وهي الثانية له بعد باكورته "ليل" (2013).
للمناسبة، كان هذا الحوار معه.


قبل عدة أيام، اُختيرت روايتك "حارس الموتى"، الطبعة الانجليزية، من بين 15 رواية مرشحة لنيل جائزة "بانيبال". لم تزل هذه الرواية تلقى صدى طيباً برغم صدورها قبل أربعة أعوام. ما السبب؟ هل مرده وصولها إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية [البوكر [2016؟
طبعاً. لأن روايات القائمة القصيرة جذابة للقارىء والناشر الأجنبي معاً. من هذا المنطلق تولّت الجامعة الأمريكية في القاهرة ترجمتها. اختارت هي المترجم الذي نقلها إلى الإنجليزية وقد أصدرتها في أبريل 2019 لدى منشورات دارها  Hoope Fiction. وجاءت الرواية في المرتبة الأربعين بين أكثر  70 رواية مترجمة إلى الإنجليزية مبيعاً في أنحاء العالم.


ماذا تمثل هذه الرواية في إطار مشروعك الروائي؟
صراحة ليس لدي مشروع روائي. ولا أطمح إلى أن أكون صاحب مشروع. أجد فكرة صالحة للرواية فأبني عليها الحوادث والشخصيات رافداً إياها بسرد شائق تلافياً للملل. لدي روايتان إلى الآن ليس غير، إذ دخلت معترك الرواية متأخراً. لذا ليس منطقياً الكلام على مشروع روائي.  


قبل وصول الرواية إلى القائمة القصيرة للبوكر، كيف استقبلها القراء والنقاد؟
بحماسة. علماً أني لم أقم حفلة توقيع لدى صدورها كما يفعل الكثيرون. الناشر أكد لي مراراً أن "حارس الموتى" من أكثر منشورات داره مبيعاً في لبنان. وقد نشر أصدقاء لي وأقارب مقاطع منها على فيسبوك، فحصدت هذه المقاطع تعليقات إجابية جداً، وانهالت على بريدي الالكتروني الرسائل المشجعة.
لكن القراء في بلدان عربية عدة أقبلوا عليها بعد بلوغها القائمة القصيرة للبوكر، إذ نفدت طبعتها الثانية بعد إطلاقها بأسبوعين، والطبعة الثالثة بعد ثلاثة أشهر. هذا افرحني خصوصاً أن روايتي "ليل" وُزّعت في لبنان فحسب.
النقد رحّب بها تماماً مثلما رحّب بروايتي السابقة "ليل". علماً أن اكثر النقاد الذين كتبوا عنها لا اعرفهم الا بالاسم. اصدقُ النقد هو الذي يأتي من ناقد لا يعرفك ولا تعرفينه. لأن، ويا للاسف، سوس المحسوبيات متوغل في غالبية المقالات النقدية.


حدثنا عن هذه الرواية وظروف كتابتها ومضمونها والمختلف فيها عن روايتك الأولى؟
كتبت الرواية بعدما تكونت لدي افكار كثيرة عن العمل في ثلاجة الموتى ايام الحرب التي استمرت في لبنان خمسة عشر عاماً، وقد رواها لي الشاب الذي تولى نقل الجثث وحشوها وتنظيفها وحراستها.
نواتها حقيقية. لكن المخيلة أغنتها على غير صعيد، خصوصاً على صعيد المعارك وأساليب القتال وأجواء المستشفى.
لا أود الكلام على موضوعها كي لا أحرم القارىء من متعة اكتشاف تفاصيله.
لا تختلف هذه الرواية عن سابقتها اختلافاً كبيراً. في اللغة مثلاً، تخففت "حارس الموتى" من العبارات والمفردات العامية التي زخرت بها "ليل" على نحو متعمد. في الموضوع، بطلا الروايتين جاءا من الحرب، الاول تورط فيها عن سابق تصور وتصميم، والثاني بقي على هامشها مع انه وُرّط فيها وظل يرفضها حتى رمى السلاح وهرب من الثكنة وعمل في ثلاجة الموتى، هذا العمل الذي أخفق الكثيرون قبله في مزاولته.


الافتتان بالجسد الميت في  "حارس الموتى" مشهد مؤلم وجميل، ويُذكّر بقصيدة بودلير المعروفة "الجيفة". هل أردت فيه إظهار "جماليات القبح" بأبعاده الفنية فقط أم أنّه ترميز إلى تآلف اللبنانيين مع منظر الجثة من فرط مشاهدتها؟
أردت ابراز التآلف مع الجثث. الراوي الذي كان في القرية يغير طريقه حتى لا يمر قرب موكب جنازة، بات يجد الطمأنينة والسلام في براد الموتى. بلغت به الالفة مع الموتى حتى حشو الجثة وتنظيفها. أكثر من ذلك، راح يسرق تلبيسات الذهب من أفواه الجثث ويبيعها. ولم يتوانَ في حلق ذقون الموتى ونزع شعيرات أنوفهم مقابل مكافأة مالية زهيدة. مشاهد القتلى على الطرق وسحل الجثث قتلت الرحمة لدى بعض الناس، فغدا موت أحدهم مناسبة لتبادل الأخبار والنكات أكثر منها تعزية لأهل الفقيد وجبراً لخواطرهم.
هنالك نهضة روائية مستجدة في العالم العربي، حتى باتت للرواية عدة جوائز.


ما أسباب هذه النهضة؟ وهل جاءت على حساب الشعر؟
صحيح هذا. فورة لافتة من المرجح ان تستمر بضع سنوات. ثم تتراجع تدريجياً عندما يفصل غربال الزمن القمح من الزؤان. للزمن دور عميق في الغربلة لأن نقاد الرواية قليلون ويُعدّون على اصابع اليد.
هنالك جملة من الأسباب تكمن وراء هذه النهضة. أولها أن الرواية تتسع لمجمل فنون الكتابة، منها الشعر، وأنها تقول مباشرة ما لم يستطع الشعر أن يقوله. فإن هو قاله على غرارها بَطُل أن يكون شعراً. وثاني تلك الأسباب أن الرواية العربية حديثة النشأة مقارنة بعمر نظيرتها الغربية، وقادرة على استيعاب العديد من تجارب السرد. وثالثها، وهو ذو بعد تجاري، أن دور النشر تميل إلى نشر الرواية بحجة أنّها تجد إقبالاً ملحوظاً لا يحظى به الشعر.
عليه، لا أعتقد أن نهضة الرواية جاءت على حساب الشعر. والدليل أن الدواوين التي تصدر سنوياً لا يقلّ عددها عن عدد الروايات. ولا يعني تخصيص الجوائز للرواية دون الشعر، أن الرواية باتت أهم من الشعر. ولا تنسي ان الشعر ديوان العرب مثلما علمنا تراثنا الادبي الثرٰ. واستبعد ان يخلي المكان للرواية، لانه الابن المدلل للفنون كلها.


فريق من المتابعين ينتقد الجوائز الأدبية، منها جائزة البوكر، ويرى أنها استولدت حالة من هوس كتابة الرواية من أجل الجوائز. ما تعليقك؟
نقاد الجوائز ثلاث فئات، الاولى شاركت في المسابقة ولم تصل رواياتها الى اي من القائمتين، والثانية تنتقد من باب تصفية الحسابات مع احد اصحاب الروايات الفائزة او مع احد اعضاء اللجنة. والفئة الثالثة لا تحسن سوى سب الناس والتهجم على الذين يصيبون شيئاً من النجاح. النقاد المنزهون عن الاغراض قلة، وآراؤهم مصابيح تكشح مخلفات النقد الشتّام عن طريق الموهوبين والمبدعين الحقيقيين.
ليس مستغرباً ان تنشّط الجوائز الحركة الروائية. خصوصاً اذا كانت الجوائز قائمة على معايير ادبية صرفة. ولا ضير في تكاثر مثل هذا الطراز من الجوائز ما دام شاحذاً همم الكتّاب والراغبين في الكتابة طمعاً بالفوز.
في المحصلة، الجوائز لا تصنع كتّاباً، لكنها تحمل إلى الضوء كتٰاباً خلاقين كانوا في حاجة الى نيل جائزة لتتسع دائرة قرائهم.


عملت مصصحاً لغوياً في أهمّ دور النشر اللبنانية. كيف كنت ترى مستوى الأعمال الروائية العربية؟
ليس مدققاً فحسب. عملت محرراً أيضاً، إذ لطالما أجزت لنفسي، عدا تصحيح اللغة، حذف الحشو والركاكة وغيرهما من العيوب. بعضهم كان يشكرني وبعضهم عدّ فعلتي اعتداء على نصه. وأحيانًا توليت مهمة قراءة المخطوطات وابداء الرأي فيها. هنالك روايات امتعتني وآنستني لدى تصحيحها، وروايات متوسطة جعلتني اسأل نفسي لماذا يلح اصحابها على الكتابة وهم جاهلون الحد الأدنى من الصرف والنحو. وهنالك روايات وكتب جعلتني أكفر بهذه المهنة، وهي كانت، بالإضافة الى الأجر الشحيح، وراء عزوفي عن التدقيق. وقد شبهت المدقق بالزبّال الأدبي. ومثله سكرتير التحرير في الجريدة والمجلة، ولطالما كنتهما مرغماً على القيام بعملهما مع أني لم أحبّه يوماً.


كذلك ألّفت كتباً لآخرين، أليس هذا خيانة للتعبير وانتحالاً للمشاعر؟
تخليت عن هذه الحرفة التي كنت ازاولها متزامنة مع العمل الصحافي. لم ازل متحفظاً عن ذكر الأشخاص الذين وثقوا بي وعهدوا إلي تأليف كتاب او المشاركة في تحريره أو تصحيحه.
ليس في ذلك خيانة ولا مشاعر منحولة. فأنا أكتب نزولاً على رغبة الزبون. إنه عمل أتقاضى عنه بدل أتعاب. تماماً كالنجار والحداد. أنفذ المطلوب. منهم من يقدم لي الأفكار فأصوغها متوسعاً بها في إطار منهجي. ومنهم من يطرح الفكرة تاركاً لي حرية التصرف. ومنهم من يسلّم إلي نصاً ذا صياغة ركيكة فأعيد كتابته وتبويبه. كذلك كتبت مجموعات شعرية وروايات.
الكاتب الشبح، وهو اللقب الذي يطلق على الذي، بناء على الطلب، يؤلف كتاباً يحمل اسم سواه، هذا الكاتب معروف في الأوساط الأدبية. وهنالك اسماء مشهورة في العالم العربي مدينة لكتّاب أشباح ساهموا في إطلاق أصحابها إلى الضوء.


اليوم، نحن في عزلة فرضتها جائحة كورونا. ماذا تفعل في هذه العزلة؟
قراءة ومشاهدة أفلام ومتابعة الأخبار. بالإضافة إلى الكتابة.


هل ثمة رواية جديدة، وما موضوعها؟
أنجزت رواية محورها معاناة شقيقتي التي فارقتنا قبل أربع سنوات مع مرض السكري وفقدانها النظر ثلاثة عشر عاماً ثم استرداده. إنها رواية عائلية بامتياز. أتريث في نشرها ريثما يتلاشى الوباء ويتضح مآل الوضع المعيشي الحرج في بلادنا التي تحكمها منظومة سياسية فاسدة أفقرت الشعب وأذلته متعاضدةً مع ذئاب المصارف وأمراء الحرب.