+A
A-

المبدع البحريني وسطوة التكنولوجيا

يقول روبرنت دارنتون مؤلف كتاب “الكتاب بين الأمس واليوم”...: (لماذا هذا الإعجاب الكبير بالنشر الإلكتروني؟ يبدو أنه تكوّن عبر ثلاث مراحل .. مرحلة أولية من الحماس المثالي الحالم، فترة مخيبة للأمل، وميول جديدة نحو استشراف عملي.

في البداية اعتقدنا أننا قادرون على إنشاء فضاء إلكتروني ووضع كل شيء فيه، ثم دعوة القراء إلى تدبر أمورهم، ثم تعلمنا أن لا أحد مستعدًّا لقراءة كتاب عن شاشة الكمبيوتر أو البحث بين أكوام من الأوراق المطبوعة، والآن نواجه إلحاق الكتاب التقليدي مع المنشورات الإلكترونية المصممة خصيصًا لأهداف وجمهور محددين).

تقودنا تلك المقدمة إلى تساؤل وهو... إلى أي مدى استفاد المبدع البحريني من الشبكة العنكبوتية؟، وهل استطاع أن يروّج لإصداراته بالشكل الأمثل في هذا العالم والفضاء المفتوح؟ وهل يكتسب النص قيمة ثقافية عند نشره على الإنترنت أم يتحوّل إلى مجرد احتفال مهرجاني أو مجرد التفرج على آخر مستحضرات التجميل؟

في هذا التحقيق استطلعنا رأي أنشط مبدعين وأكثرهما التصاقًا بالتكنولوجيا وأشد المتحمسين لها.

لم يستفد المثقف العربي من التكنولوجيا

الأديب والكاتب جمال الخياط وصاحب ومؤسس دار أفكار للثقافة والنشر يقول: نعيش في عالم مضطرب ومتغير، متسارع بوتيرة لا تصدق، حيث كل يوم يحمل لنا الجديد، ولكن الثابت في هذا العالم هو أن التكنولوجيا أصبحت عمادًا ضروريًّا ورئيسًا في كل مفصل من مفاصل الحياة، حيث تغلغلت في عالمنا الشخصي كما هو الحال مع الاتصالات وتعلقنا بنتاجاتها الاجتماعية في التواصل، وأيضًا في طريقة التعاطي مع التزاماتنا كما هو الحال في تيسير الخدمات الحياتية من مصارف وكهرباء وغيرها. إذن كان لزامًا علينا مواكبة هذا التطور عبر مسايرة أدواته الكثيرة، لذلك وجدنا تعاطيًا كبيرًا وتفاعلاً استثنائيًّا في كل المجالات إلا الجانب الثقافي، وما يتصل به من إبداع سواءً على صعيد المنتج المطروح أو المثقف نفسه، حيث نأيا بشكل غير مفهوم ومبرر عن الانشغال بالتكنولوجيا ومحاولة تسخيرها لخدمة الثقافة وأهدافها المتنوعة.

ويتابع الخياط: للأسف لم يستفد المثقف العربي من التكنولوجيا إلا في ما يتصل باستخدام وسائل الاتصال الاجتماعي وخاصة الفيسبوك، فقد ركّز جل اهتمامه في التواصل مع المثقف في قطره البعيد هذا في اهتمامه الأول، ثم في نشر منتجه الإبداعي بالطريقة ذاته التي يتعامل بها مع وسائل النشر التقليدية، فنراه أقصى ما وصل إليه هو توصيل نتاجه دون التعاطي بروح الإبداع نفسه، وهو ما يشكّل قصورًا مريعًا في مسايرة هذا التدفق التقني.

بالطبع الجيل المتحكم في العملية الثقافية يأتي من خلفية تقليدية يحكمها التحفظ بدرجة كبيرة، فمن المبدع الذي لا زال يصر على الكتاب الورقي كمادة رئيسة لنتاجه الإبداعي وحتى الناشر/الموزع الذي بقى وفيًّا للورق ورفيقه البريد. كخطوة أولية، إن أول ما يجب علينا أن نفعله من أجل تغيير الصورة النمطية هذه أن نطور العقلية القائمة على صناعة الثقافة في مجتمعاتنا العربية، فهي الطرف الأصيل والذي لا زال يرفض التطور بحجج كثيرة ربما أوضحها التكلفة المادية والخوف من انتهاك الملكية الفكرية وهي حجج واهية تساق من باب الردع ودون دراسة واعية، حيث هي نفسها الحجج التي ستضمن صيانة الملكية الفكرية وتقلل بالطبع من التكلفة المادية.

للأسف نحن لم نستفد من وسائل الاتصال الاجتماعي وثورتها الصاخبة في الترويج للثقافة ونشرها رغم توافر منصات مثل الفيسبوك والانستغرام وغيرها من التطبيقات الناجحة على مقومات أكيدة للنجاح والتسويق. ينبغي على القائمين على الثقافة والمتعاطين معها أن يدركوا بأن المكتبة الإلكترونية حقيقة واقعة وأن الكتاب سيصبح تحت حصاره إنتاجًا وتوزيعًا، وأنه لن يظل ورقيًّا فحسب؛ وهو ما تعول عليه دار أفكار للثقافة والنشر من حيث خلق مفهوم جديد للثقافة والنشر عبر توازي الطبع الورقي مع الإصدار الرقمي ثم مواكبته بالكتاب الصوتي كخطوة لاحقة بقصد الوصول إلى المتلقي بكل الطرق الإلكترونية المتاحة.

هناك مسؤولية مشتركة على المبدع/المؤسسات الثقافية/الأجهزة الرسمية/الناشر/الموزع من حيث الوعي التام بأهمية التكنولوجيا وبحتميتها في تطور الحياة والمجتمع في السنوات القادمة وهو وعي لابد بلورته وتكوينه في وعي الأجيال الحالية والقادمة من أجل أن لا نظل متخلفين، نرزح تحت وطأة التخلف الرقمي الذي سيقودنا إلى التخلف بمفهومه الأشمل.

الكتاب على هيئة فاشنستا

أما الفنان والكاتب خالد الرويعي صاحب “الإنترنت بوصفها نصًّا والذي يعد أول كتاب من نوعه في البحرين الذي طرح مسألة أهمية الإنترنت بالمبدع” فيقول:

قبل سنوات كنت قد أشرت ذات كتابة إلى أن مجتمع الشبكات الاجتماعية في طريقهم إلى إحداث تغيير جذري في مفهوم المجتمع الأهلي أو المدني، وهم في طريقهم إلى تأسيس مجتمعاتهم الافتراضية بعيدًا عن الشكل المؤسساتي أو السلوكي حتى، وكل مقومات هذه المجتمع مهيأة الآن للتشكل. ومن يراقب العلاقة بين هؤلاء سيكتشف عمق التأثير في أوساط المجتمعات الافتراضية.

لقد سارت بنا (الأمور بشكلها الطبيعي وتحقق بذلك شكلاً جديدًا للتطبع الآدمي مع الحياة، ومرّ الإنسان الحديث أمام ما يحدث بمنعطفات مثيرة للتساؤل، وغدا المجتمع الإلكتروني وسيطًا جديدًا لنقل الإنسان الحديث إلى أطوار استثنائية في الحياة... المصدر: (الإنترنت بوصفها نصًّا - خالد الرويعي 2006) والدليل على ذلك ما حدث في 2011.

لكن المسألة ليست محصورة في مجتمع الكتاب أو النشر، المسألة أعقد من ذلك، ولذلك فإن أساليب اكتساب العادات ستتغير مع استمرار وتيرة الاندفاع نحو هذه الشبكات ووفق ما يتغير تكنولوجيًّا، والجيل الجديد متحمس جدًّا لهذه التكنولوجيا، فقد ضرب بعرض الحائط كل شيء.. إذ إنه لا يرى في العالم سوى الأصدقاء الإلكترونيين.. ولا يرى في المعلومة إلا ما تعبر عن محيطه وما يتقاطع معه، فالتكنولوجيا لا مفر منها أبدًا وهي باتت منطقًا إنسانيًّا للتحول والتطور كحال الطبيعة ونشأتها وتأثيرها في الإنسان، وعليه فإنه التمازج مع التكنولوجيا شرط من شروط المعرفة الجديدة.

أما المخزون المعلوماتي لهذه الشبكات، فهو كبير جدًّا، والمخزون المعرفي لها أكبر، بحيث تستطيع من خلالها إعادة كتابة تاريخك المحلي بعد عدة سنوات، وسيبقى الذين يقتاتون على أمهات الكتب حبيسي مكاتبهم الفارهة إذا لم يلتفتوا إلى هذه المجتمعات الافتراضية.

في الآونة الأخيرة بدأت بسلسلة مراجعات لقراءات عديدة وكتابات كنت قد كتبتها قبل عدة سنوات لتفحص حالة المجتمع الافتراضي، فكانت الأسئلة حول (ما الذي تغير؟ وهل بالفعل تغيرنا؟) وكنت قد أضفت حينها بأن هذه النوعية من الأسئلة قد تبدو مغلقة في حين، لكنها واجبة السؤال عندما يقترن الحال بواقعنا الافتراضي وموازاته بالمجتمع الافتراضي أيضًا.. لكن عندما ننطلق من السؤال السابق: ما الذي تغير؟ سنكتشف بأننا كنا أمام فجوة عميقة بيننا وبين ما تغيّر، أما الآن فأنه يبدو أننا دخلنا معترك هذا المجتمع الافتراضي وبدأت هذه المؤسسة تضعنا في نظامها وسلوكها العام، وبقدومها أتت لتضع شكلاً آخر لسلوك مختلف وللعلاقات بشتى أنواعها، وكل ذلك أتى ليفرز مجتمعًا آخر أيضًا.

وإن بدا ظاهريًّا أن هذه المجتمعات الافتراضية قد ساهمت بشكل من الأشكال في توسيع رقعة الانتشار الثقافي إلا أنه ساهمت في تكريس الاستهلاك، فالثقافة لم تعد كما كانت بمعناها التأثيري والمجتمعي، الثقافة الآن هي في فن الفاشنيستا.