+A
A-

درويش... المنتصر على الغياب في ذكرى رحيله

وكأن لقائي معه كان أمس خلال زيارته للبحرين في ربيع 2006، فملامحه وكلماته الموقعة رسخت لسنوات بذاكرتي، حيث يظل الشاعر محمود درويش المنتصر على الغياب دائمًا رغم حلول اليوم ذكرى رحيله العاشرة. ولعل المهتم بدرويش اليوم، لا يتحير وهو يقرأ أعماله الشعرية في رصد ظواهر مهمة تحتاج إلى قراءة معمقة ووجيهة، وقد اخترت منها البحث في “الشعري والسياسي” في قصائده، مادامت تجربته الشعرية قد “ولدت ونمت وتطورت في حضن صراع سياسي طويل ومعقد، وهو صراع له أبعاد فكرية وحضارية وإنسانية، وتنهض تجربته الشعرية على مجموعة من المرتكزات، مثل: الشعر، الإنسان، الحرية، المكان، المتلقي، المستقبل”. إلى جانب ما يجده دارس أشعاره من ملامح نقدية تكشف نهج الكتابة الذي يتبعه وترصد مواقفه الفنية والأسلوبية، التي تسهل المهمة البحثية في تجربة درويش وتضيء جوانب مهمة من مسيرة ثرية بألوانها وتشكيلاتها ومثيرة بموضوعاتها وتحولاتها، يقول درويش: “والتجديد الدائم للعلاقات القائمة في القصيدة، وتغير هذه العلاقات، لا أعني بالتغير التدمير أو الإبادة، أعني التطوير”. لم يشأ للقصيدة أن تستقر على شكل نهائي، يفقدها جماليتها، ويخفت بريقها وألقها ويصبغ عليها شيئا من الجمود القاتل والرتابة المملة، بل أرادها قصيدة تسير حيث تسير الحياة، تتلهف الحرية، وتواكب إيقاع الحركة والتطور، وتعبر عن الوعي المتنامي بواقع الأنا الشاعرة كفرد وكإنسان، وتحاكي تخييلا ما يعتمل في وجدانها، وما يدهش فكرها، فصارت لها الجرأة والشجاعة والاستقلالية، إذ لم يعد خطابها الشعري يخفي ما يريد، وإنما صار خطابا يدفع جمهوره نحو ممارسة تفكيره الخاص والحر ليعيش “قرنا مستنيرا”، ونحو الحداثة كموقف أكثر منها مرحلة تاريخية، وهو الموقف نفسه الذي يراه ميشال فوكو على حداثة شارل بودلير بوصفها وعيًا يقطع الزمن والتاريخ، وقطيعةً مع التقليد والاتباع، وبأنها “سعي إلى جعل الحاضر بطوليًّا”. ويصف فوكو الحداثة مع بودلير بأنها “تمرين يواجه فيه الاعتناء بالواقع ممارسةً حرة تحترم الواقع بقدر ما تغتصبه”.

إن دراسة مسألة “الشعري والسياسي” تستلزم رصد كافة جوانبها واستيفاء شروط بحثها وحيثياتها، والإقناع بوجاهة طرحها وحلها؛ لأن الدارس يقف على عتبة مهمة في تطور الشكل الفني في التجربة الشعرية، وإطلالة مميزة على مواقف الذات الشاعرة وعلاقاتها الجدلية مع الآخر الموروث الشعري، الذائقة الشعرية، السلطة السياسية والاجتماعية، الاستيطانية، يقول: “ وأنا أعتبر نفسي امتدادًا نحيلاً، بملامحَ فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة، ابتداءً بالصعاليك، حتى حكمت ولوركا وأراغون، الذين هضمت تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدوني بوقود معنوي ضخم”.

إن اللافت في طور بدايات تجربته الشعرية، ارتباط الشعري والسياسي ارتباطا وثيقا وتلازمهما تلازما لافتا، ومن تجليات ذلك أنها ارتبطت بحاضر مأساة شعبه، ومشكلة اغتصاب أرضه، ومسألة الاغتراب، وبماضي الطفولة الحزينة والمنكوبة، طفولة التشرد وحياة اللجوء، ومن الحاضر والماضي يستبد به الوعي ويستمد زخما ثوريا، ويسكنه هاجس إبداعي، اعتملت في فكره ووجدانه، وتحولت إلى مكاشفة وبوح، مكاشفة بمأساته ومأساة شعبه، اللاجئ، بجروحه الحادة، بالحرمان والإبعاد عن المكان (البيت والأسرة، والوطن والشعب) والفقر، وسلب الحرية. وبوح بتضخم إحساسه بالاغتراب عن المحيط الاجتماعي والسياسي والمكاني، بفقدان الهوية الضائعة والانتماء الباهت الذي ارتبط في أفق المتلقي العربي بالأرض الفلسطينية وقضيتها.

على أن هذه النقلة النوعية والجديدة في مسيرة درويش الشعرية من المحلي إلى العالمي ومن الفردي إلى الإنساني لم تكن تعني إبطال البعد الأيديولوجي والفكري السياسي في خطاب درويش الشعري، بل تترجمه إبداعا كخطاب يحترم الشرط الفني والضرورة الجمالية، والوعي بمكوناتهما الأساسية التي أصبحت تشكل الاهتمام الأول في عملية القول الشعري، وظل الشاعر أمينا لرؤياه السياسية مع فارق تعبيري بين قوله في طور البدايات:

وطني يعلّمني حديد سلاسلي عنفَ النسور ورقَّةَ المتفائل

وبين قوله في طور متقدم من مسيرته:

نزف الحبيب شقائق النعّمانِ،

أرض الأرجوان تلألأت بجروحِهِ،

أولى أغانيها: دم الحبّ الذي سفكته آلهةٌ،

وآخرها دم...

يا شعب كنعانَ احتفلْ

بربيع أرضك واشتعلْ

فيلاحظ قارئ أعمال درويش على مستوى الأدوات الفنية الموظفة تطورا ملحوظا جعلها أساس رصد البعد الجمالي في شعره، الذي بات في المرحلة الأخيرة يخرج من عنف الخطاب الأيديولوجي وثقل اللغة الثورية العنيفة، إلى ابتداع لغة بصرية سينمائية تشكيلية يحتل فيها الجهاز السينوغرافي مكانة مركزية، مع ما يصاحب ذلك من استخدام متميز للألوان والبياض و”الدراماتورجيا” (المسرح). وصار الحديث عن شعر ما بعد الحداثة في التجربة العالمية لدرويش الذي صار يوازن بين الممارسة الشعرية والتنظير للشعر بالشعر. مع تطور الرؤية الفنية في تجربة درويش، الذي كان يبحث باستمرار عن وسائل وأدوات فنية تدفع إلى القصيدة الرؤيا، يقول: “أنا لا أشعر نفسي شاعرًا ناضجًا، لا أشعر بالرضا الفني وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره. صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية، ونجحت في قهر تناقضاتي ولكني لا أشعر بالرضا الفني. ودرويش من الشعراء الذين كانوا على قناعة أن حقيقة الشعر بالتجريب والاستمرارية في البحث الدائم عن أشكال متجددة في نظام اللغة وطرق اشتغالها في القصيدة الرؤيا والثورة على الأشكال القديمة المستهلكة حتى يكون راهنيا حداثيا، وإلا تلاشت هويته قصيدته. هذا الإيمان هو الذي دفع قصيدته إلى نماء أدوات تعبيرها وتطور مضامينها بتطور موقف الأنا الشاعرة، التي كانت ظالتها البحث عن أشكال تعبير جديدة ترسخها في واقعها وتنفتح بها على حاضرها لتستشرف مستقبلها الآتي، وهي التي راهنت لا على حداثة شعرية، بل على ما بعد الحداثة بتشكيل ينم عن استفادة ودراية بخطابات الفن التشكيلي والسينما والقصة التي تتفاعل في ما بينها في فضاء الخطاب الشعري، كما ينم عن اقتدار الشاعر وإقرار بشاعريته من خلال حضوره الواعي في تصميم قصائده وهندستها، وانفتاح مضامينها على العالمية والإنسانية، متجاوزة الفردية الأيديولوجية والمحلية القطرية؛ لتصبَّ في المبدأ الإنساني الشامل وأبعاده، وفي الإضافات الفكرية، وفي الرحلة من العقل والحرية والاستقلالية إلى إرادة المعرفة، في سياق تنويري. وعلى الخطاب الشعري أن يأخذ راهنيته من جديد، ويعود شريدا ينشغل بالحدث الراهن، ويدخل “مرحلة الأنوار”، برفع شعار كانط “لا تنتظروا” ومتى كانت الاستجابة تحقق “تقدم النوع الإنساني”، ودليل هذا التقدم “التعاطف الطموح الذي يثير الحماس في الثورة.... لا يهم، إذا كانت ثورة شعب مملوء بالروح، كما رأينا ذلك يحدث في أيامنا هذه (الأمر يتعلق بالثورة الفرنسية إذن)، لا يهم إن نجحت أم لا، ولا يهم إذا راكمت البؤس والعنف، وإذا راكمت إلى درجة أن رجلا عاقلا ومتمكنا من إنجازها لن يقبل عليها بهذا الثمن الذي تتطلبه”. ويقتضي التفكير في الحدث انشغالا بالراهن بطرح أسئلة حول الحاضر، حاضر الوجود التاريخي وليس الوجود الميتافيزيقي، والحدث ليس أبديا ولا كليا مطلقا وإنما هو الجديد واليومي والمتبدل، وفي ذلك يقول فوكو: “أنا لست فيلسوفا بالمعنى التقليدي للعبارة، وقد لا أكون فيلسوفا جيدا، وعلة ذلك أنني لا أنشغل بالأبدي وما لا يطرأ عليه التغيّر وما يظل هو هو خلف تبدّل المظاهر بل أنشغل بالحدث”.

فالحداثة فهم فكري منطقي للوجود كموجود، بتكوين خطابات معرفية حوله. فحين نمعن النظر نجد أن الحداثة هي ترجمة لموقف فكري من الوجود التاريخي للإنسان، والمجتمعات، ونبذ لكل رأي جاهز ونظرية محنطة. هذا الفهم يردف بفعل مادي ومعنوي في الوجود التاريخي والطبيعي من أجل أن يكون للإنسان قيمة ولوجوده معنى، وذلك بصهر الموجودات المادية والمعنوية لتكون لها منفعة وجدوى.

إن الشعر إذن متى انشغل بالحدث الراهن، بشّر بالثورة على التقليد والجمود، الثورة بوصفها حدثا مع التاريخ وقطيعة مع القطيع، وإرادة واستقلالية، ثم هي قيمة ودليل على تقدم البشر كـ”حدث دليل” على الحداثة بصفتها نظرة عقلانية وموقفا متميزا إلى وجود الإنسان والأشياء والكون، وتجاوزا مستمرا له، هي نظرة إبداع لا نظرة اتباع وتقليد “لا تقليد الآخر ولا تقليد السلف، ولا تقليد الغالب ولا تقليد الماضي سواء بسواء. إن الحداثة في جوهرها، ومنذ نشأتها قبل نحو من قرنين، نظرة متميزة إلى الكون وإلى الطبيعة وموقف رائد من الإنسان ومن المجتمع، كلاهما يقوم على نبذ الآراء الجاهزة والنظريات المحنطة، ويتوق إلى تجاوز حدود المعرفة تجاوزا مستمرا ويسعى إلى عقلنة كل المعطيات، أشياء طبيعية كانت أو مؤسسات رمزية واجتماعية”. والشعر عند درويش أسس هذه الرؤيا الشاملة والمتميزة للعالم الراهن، هي رؤيا السلطة الشعرية، وسلطة الإبداع التي أوجدت لغة أكثر نفوذا من لغة السياسة المجردة، وفتحت منافذ فنية للذات الشاعرة متى لم تجد مساحة من التعبير الحر، وأسست لوعي مشترك يحقق سلطة الشعري وسلطة السياسي.

بقلم الناقدة: راضية الدريدي