+A
A-

“التحالف الغادر”... تعاملات سرية بين إسرائيل وإيران وأميركا

التعاملات السريّة بين إسرائيل وإيران والولايات المتّحدة الأميركية. هذا ليس عنوانا لمقال لأحد المهووسين بنظرية المؤامرة من العرب، وهو بالتأكيد ليس بحثا أو تقريرا لمن يحب أن يسميهم البعض “المتشددين” أو أن يتّهمهم بذلك، لمجرد عرضه للعلاقة بين إسرائيل وإيران وأميركا وللمصالح المتبادلة بينهم وللعلاقات الخفيّة.

الكتاب يعتبر قنبلة الكتب والأكثر أهمية على الإطلاق من حيث الموضوع وطبيعة المعلومات الواردة فيه والأسرار التي يكشف بعضها للمرة الأولى وأيضا في توقيت وسياق الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط، ووسط الأزمة النووية الإيرانية مع الولايات المتّحدة.

الكاتب هو تريتا بارسي أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة “جون هوبكينز”، ولد في إيران ونشأ في السويد وحصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية ثم على شهادة ماجستير ثانية في الاقتصاد من جامعة “ستكوهولم” لينال فيما بعد شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة “جون هوبكينز” في رسالة عن العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية. وتأتي أهمية الكتاب من خلال كم المعلومات الدقيقة التي يكشف عن بعضها للمرة الأولى، إضافة إلى كشف الكاتب لطبيعة العلاقات والاتصالات التي تجري بين هذه البلدان (إسرائيل- إيران – أميركا) خلف الكواليس شارحا الآليات وطرق الاتصال والتواصل فيما بينهم في سبيل تحقيق المصلحة المشتركة التي لا تعكسها الشعارات والخطابات والسجالات الإعلامية الشعبوية والموجّهة.

كما يكتسب الكتاب أهميته من خلال المصداقية التي يتمتّع بها الخبير في السياسة الخارجية الأميركية “تريتا بارسي”. فعدا عن كونه أستاذا أكاديميا، يرأس “بارسي” المجلس القومي الإيرانى-الأميركي، وله العديد من الكتابات حول الشرق الأوسط، وهو خبير في السياسة الخارجية الأميركية، وهو الكاتب الأميركي الوحيد تقريبا الذي استطاع الوصول إلى صنّاع القرار (على مستوى متعدد) في البلدان الثلاث أميركا، إسرائيل وإيران.

يستند الكتاب إلى أكثر من 130 مقابلة مع مسؤولين رسميين إسرائيليين، إيرانيين وأميركيين رفيعي المستوى ومن أصحاب صنّاع القرار في بلدانهم. إضافة إلى العديد من الوثاق والتحليلات والمعلومات المعتبرة والخاصة.

ويعالج “تريتا بارسي” في هذا الكتاب العلاقة الثلاثية بين كل من إسرائيل، إيران وأميركا لينفذ من خلالها إلى شرح الآلية التي تتواصل من خلالها حكومات الدول الثلاث وتصل من خلال الصفقات السريّة والتعاملات غير العلنية إلى تحقيق مصالحها على الرغم من الخطاب الإعلامي الاستهلاكي للعداء الظاهر فيما بينها.

وفي إطار المشهد الثلاثي لهذه الدول، تعتمد إسرائيل في نظرتها إلى إيران على “عقيدة الطرف” الذي يكون بعيدا عن المحور، فيما تعتمد إيران على المحافظة على قوّة الاعتماد على “العصر السابق” أو التاريخ حين كانت الهيمنة “الطبيعية” لإيران تمتد لتطال الجيران القريبين منها.

وبين هذا وذاك يأتي دور اللاعب الأميركي الذي يتلاعب بهذا المشهد ويتم التلاعب به أيضا خلال مسيرته للوصول إلى أهدافه الخاصّة والمتغيّرة تباعا.

واستنادا إلى الكتاب، وعلى عكس التفكير السائد، فإن إيران وإسرائيل ليستا في صراع أيديولوجي بقدر ما هو نزاع استراتيجي قابل للحل. يشرح الكتاب هذه المقولة ويكشف الكثير من التعاملات الإيرانية – الإسرائيلية السريّة التي تجري خلف الكواليس والتي لم يتم كشفها من قبل. كما يؤّكد الكتاب في سياقه التحليلي إلى أنّ أحداً من الطرفين (إسرائيل وإيران) لم يستخدم أو يطبّق خطاباته النارية، فالخطابات في واد والتصرفات في واد آخر معاكس.

وفقا لبارسي، فإنّ إيران الثيوقراطية ليست “خصما لا عقلانيا” للولايات المتّحدة وإسرائيل كما كان الحال بالنسبة للعراق بقيادة صدّام وأفغانستان بقيادة الطالبان. فطهران تعمد إلى تقليد “اللاعقلانيين” من خلال الشعارات والخطابات الاستهلاكية وذلك كرافعة سياسية وتموضع ديبلوماسي فقط. فهي تستخدم التصريحات الاستفزازية ولكنها لا تتصرف بناء عليها بأسلوب متهور وأرعن من شانه أن يزعزع نظامها. وعليه فيمكن توقع تحركات إيران وهي ضمن هذا المنظور “لا تشكّل “خطرا لا يمكن احتواؤه” عبر الطرق التقليدية الدبلوماسية.

وإذا ما تجاوزنا القشور السطحية التي تظهر من خلال المهاترات والتراشقات الإعلامية والدعائية بين إيران وإسرائيل، فإننا سنرى تشابها مثيرا بين الدولتين في العديد من المحاور بحيث أننا سنجد أنّ ما يجمعهما أكبر بكثير مما يفرقهما.

كلتا الدولتين تميل إلى تقديم نفسها على أنّها متفوقة على جيرانها العرب (superior). إذ ينظر العديد من الإيرانيين إلى أنّ جيرانهم العرب في الغرب والجنوب اقل منهم شأنا من الناحية الثقافية والتاريخية وفي مستوى دوني. ويعتبرون أن الوجود الفارسي على تخومهم ساعد في تحضّرهم وتمدّنهم ولولاه لما كان لهم شأن يذكر.

في المقابل، يرى الإسرائيليون أنّهم متفوقون على العرب بدليل أنّهم انتصروا عليهم في حروب كثيرة، ويقول أحد المسؤولين الإسرائيليين في هذا المجال لبارسي “إننا نعرف ما باستطاعة العرب فعله، وهو ليس بالشيء الكبير” في إشارة إلى استهزائه بقدرتهم على فعل شي حيال الأمور.

ويشير الكتاب إلى أننا إذا ما أمعنّا النظر في الوضع الجيو-سياسي الذي تعيشه كل من إيران وإسرائيل ضمن المحيط العربي، سنلاحظ أنهما يلتقيان أيضا حاليا في نظرية “لا حرب، لا سلام”. الإسرائيليون لا يستطيعون إجبار أنفسهم على عقد سلام دائم مع من يظنون أنهم اقل منهم شأنا ولا يريدون أيضا خوض حروب طالما أنّ الوضع لصالحهم، لذلك فان نظرية “لا حرب، لا سلام” هي السائدة في المنظور الإسرائيلي.

في المقابل، فقد توصّل الإيرانيون إلى هذا المفهوم من قبل، واعتبروا أنّ “العرب يريدون النيل منّا”.

استنادا إلى “بارسي”، فإن السلام بين إسرائيل والعرب يضرب مصالح إيران الإستراتيجية في العمق في هذه المنطقة ويبعد الأطراف العربية عنها ولاسيما سوريا، مما يؤدي إلى عزلها استراتيجيا. ليس هذا فقط، بل إنّ التوصل إلى تسوية سياسية في المنطقة سيؤدي إلى زيادة النفوذ الأميركي والقوات العسكرية وهو أمر لا تحبّذه طهران.

ويؤكّد الكاتب في هذا السياق أنّ أحد أسباب “انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000” هو أنّ إسرائيل أرادت تقويض التأثير والفعالية الإيرانية في عملية السلام من خلال تجريد حزب الله من شرعيته كمنظمة مقاومة بعد أن يكون الانسحاب الإسرائيلي قد تمّ من لبنان..

ويكشف الكتاب من ضمن ما يكشف أيضا من وثائق ومعلومات سرية جدا وموثقة فيه، أنّ المسؤولين الرسميين الإيرانيين وجدوا أنّ الفرصة الوحيدة لكسب الإدارة الأميركية تكمن في تقديم مساعدة أكبر وأهم لها في غزو العراق العام 2003 عبر الاستجابة لما تحتاجه، مقابل ما ستطلبه إيران منها، على أمل أن يؤدي ذلك إلى عقد صفقة متكاملة تعود العلاقات الطبيعية بموجبها بين البلدين وتنتهي مخاوف الطرفين.

وبينما كان الأميركيون يغزون العراق في أبريل من العام 2003، كانت إيران تعمل على إعداد “اقتراح” جريء ومتكامل يتضمن جميع المواضيع المهمة ليكون أساسا لعقد “صفقة كبيرة” مع الأميركيين عند التفاوض عليه في حل النزاع الأميركي-الإيراني.

تمّ إرسال العرض الإيراني أو الوثيقة السريّة إلى واشنطن. لقد عرض الاقتراح الإيراني السرّي مجموعة مثيرة من التنازلات السياسية التي ستقوم بها إيران في حال تمّت الموافقة على “الصفقة الكبرى” وهو يتناول عددا من المواضيع منها: برنامجها النووي، سياستها تجاه إسرائيل، ومحاربة القاعدة. كما عرضت الوثيقة إنشاء ثلاث مجموعات عمل مشتركة أميركية-إيرانية بالتوازي للتفاوض على “خارطة طريق” بخصوص ثلاث مواضيع: “أسلحة الدمار الشامل”، “الإرهاب والأمن الإقليمي”، “التعاون الاقتصادي”.

وفقا لـ”بارسي”، فإنّ هذه الورقة هي مجرّد ملخّص لعرض تفاوضي إيراني أكثر تفصيلا كان قد علم به في العام 2003 عبر وسيط سويسري (تيم غولدمان) نقله إلى وزارة الخارجية الأميركية بعد تلقّيه من السفارة السويسرية أواخر ابريل وأوائل مايو من العام 2003.

هذا وتضمّنت الوثيقة السريّة الإيرانية لعام 2003 والتي مرّت بمراحل عديدة منذ 11 سبتمبر 2001 ما يأتي:

-1 عرض إيران استخدام نفوذها في العراق لـ (تحقيق الأمن والاستقرار، إنشاء مؤسسات ديمقراطية، وحكومة غير دينية).

-2 عرض إيران (شفافية كاملة) لتوفير الاطمئنان والتأكيد بأنّها لا تطوّر أسلحة دمار شامل، والالتزام بما تطلبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل ودون قيود.

-3 عرض إيران إيقاف دعمها للمجموعات الفلسطينية المعارضة والضغط عليها لإيقاف عملياتها العنيفة ضدّ المدنيين الإسرائيليين داخل حدود إسرائيل العام 1967.

-4 التزام إيران بتحويل حزب الله اللبناني إلى حزب سياسي منخرط بشكل كامل في الإطار اللبناني.

-5 قبول إيران بإعلان المبادرة العربية التي طرحت في قمّة بيروت العام 2002، أو ما يسمى “طرح الدولتين” و التي تنص على إقامة دولتين والقبول بعلاقات طبيعية وسلام مع إسرائيل مقابل انسحاب إسرائيل إلى ما بعد حدود 1967.

المفاجأة الكبرى في العرض كانت تتمثل باستعداد إيران تقديم اعترافها بإسرائيل كدولة شرعية! لقد سبّب ذلك إحراجا كبيرا لجماعة المحافظين الجدد والصقور الذين كانوا يناورون على مسألة “تدمير إيران لإسرائيل” و “محوها عن الخريطة”.

ينقل “بارسي” في كتابه أنّ الإدارة الأميركية المتمثلة بنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ووزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد كانا وراء تعطيل هذا الاقتراح ورفضه على اعتبار “أننا (أي الإدارة الأميركية) نرفض التحدّث إلى محور الشر”. بل إن الإدارة وبخت الوسيط السويسري الذي نقل الرسالة.

ويشير الكتاب أيضا إلى أنّ إيران حاولت مرّات عديدة التقرب من الولايات المتّحدة لكن إسرائيل كانت تعطّل هذه المساعي دوما خوفا من أن تكون العلاقة على حسابها في المنطقة.

ومن المفارقات الذي يذكرها الكاتب أيضا أنّ اللوبي الإسرائيلي في أميركا كان من أوائل الذي نصحوا الإدارة الأميركية في بداية الثمانينيات بألا تأخذ التصريحات والشعارات الإيرانية المرفوعة في الاعتبار؛ لأنها ظاهرة صوتية لا تأثير لها في السياسة الإيرانية.

ما استطاع “تريتا بارسي” تحقيقه في الكتاب في قالب علمي وبحثي دقيق ومهم، ولكن ما لم يتم ترجمة الكتاب كاملاً للعربية ووصوله للقارئ العربي والمسلم، فسيظل الكثير من الشعوب يعيش في أوهام النصرة والنجدة الإيرانية للقضايا الإسلامية والعربية وعلى رأسها قضية فلسطين!