+A
A-

كتاب “غاندي وقضايا العرب والمسلمين”... معالم خريطة إنسانية لقيم التسامح

يمثل كتاب “غاندي وقضايا العرب والمسلمين” إضافةً مهمة للمكتبة العربية والعالمية لواحد من القمم على مستوى القادة والمفكرين والملهمين، وهو المهاتما غاندي (محرر الهند)، ولعل الزوايا الأكثر عمقًا من بين الكثير من الكتب التي صدرت حول شخصية وسيرة حياة غاندي، أن الكتاب الجديد تعمق بشكل مذهل في استحضار قيم التسامح والتعايش والسلام والحرية والعدالة ونبذ التطرف والعنف والإرهاب من مواقف ووقائع وأحداث حضر فيها غاندي، وبقيت حية تحتاجها الأجيال وتحتاجها الشعوب في عالم اليوم الذي تتلاقفه موجات مؤلمة هي ذاتها الموجات التي تصدى لها غاندي من الظلم والتفرقة والعنف والتطرف والعنصرية.

محاربة التطرف والإرهاب

ويمكن القول إن مضامين هذا الكتاب القيّم، تجلت في حفل التدشين يوم الأربعاء الماضي العاشر من أكتوبر الجاري برعاية وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة تزامنًا مع مرور 150 عامًا على ميلاد المهاتما غاندي، فكتاب (غاندي وقضايا العرب والمسلمين) الصادر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، لمؤلفه الأستاذ عبدالنبي عبدالله الشعلة الرئيس السابق للجمعية البحرينية، هو كتابٌ مؤثر في محاربة التطرف والإرهاب كما وصف وزير الخارجية، وأن أكثر ما يفيد في مواجهة تلك المظاهر هو قراءة بعض ما قاله المهاتما غاندي، فقصته قصة ملهمة للغاية. وفي السياق ذاته، يتحدث المؤلف الشعلة مركزًا على أن الهدف الرئيس من هذا الكتاب هو التركيز على استخدام أسلوب اللاعنف في إحداث أي تغيير، فالمهاتما غاندي يعد نموذجًا في تحقيق التغيير بالأساليب السلمية التي ساعدته في استقلال بلاده عن الأمبراطورية البريطانية رغم أنها كانت درة التاج البريطاني، وهي الخطوة التي أسهمت في خروج البريطانيين من منطقة شرق السويس.

في السابع من سبتمبر الماضي من العام الجاري 2018، نشرت صحيفة “الحياة” تقريرًا عن هذا الكتاب لما يمثله من أهمية فكرية، قالت فيه إن الكاتب الشعلة تمكّن من الوقوف عند محطات فاصلة في سيرة حياة غاندي لها علاقة بمسألتين: أولاهما، مواقف غاندي الحاسمة ضد أي شكل للظلم والتفرقة والعنف والإرهاب في أي زي تخفّت. السياسة أو الدين أو القومية أو العنصرية، وثانيهما مواقف غاندي المنصفة من قضايا العرب والمسلمين والمنطلقة من تقديره للإسلام وشخصية النبي محمد (ص)، بدءًا بدعمه حقوق المسلمين الهنود في جنوب إفريقيا ثم لاحقًا في الهند، وتفهمه على مضض فكرة انفصال المسلمين عن الهند ونشأة باكستان ودعمه حقوقهم حتى بعد الانفصال الذي دفع ثمنها حياته ومرورًا بمناهضته الصهيونية ورفضه إقامة دولة لليهود في فلسطين. مواقف رسمت الخطوط العريضة للسياسة الهندية التي ظلت مناصرة لمجمل القضايا العربية والإسلامية، وخلال هذه المحطات يسلّط المؤلف الضوء على بعض القضايا الشائكة والمفارقات، كالإرهاصات التي مهّدت الطريق لانفصال المسلمين، مثل قضية الخلافة الإسلامية وهواجس المسلمين من بعض مواقف غاندي.

علاوةً على ذلك، أجاد الكاتب الشعلة في الانتقال إلى مسارات في رحلة غاندي بحثًا عن الحقيقة بعقل حر ومنفتح قاده لرفض التقسيم الطبقي في ديانته الهندوسية، ثم نفوره من طريقة تبشير المسيحيين، وقراءته للتوراة ونفوره مما ورد في بعض أسفارها، وإعجابه بشخصية النبي محمد والإسلام، ثم إن الكتاب حفل بالكثير من خلفيات بعض الأحداث والمواقف والطوائف والشخصيات التي عاصرت غاندي.

أساس الفكرة: قوة وعزيمة المهاتما

كانت نهاية الأسطورة “غاندي” مأساوية مفجعة! لكن البداية وأوراقها وفصولها ومراحلها حبلى بالكثير من المفاجآت والأسرار والمواقف والمناقب، فذلك الرجل جاهد طوال حياته، بكل قوة وعزيمة وإصرار؛ من أجل وأد العنف والإرهاب والتطرف والقضاء عليها، من هنا، ولسنوات طويلة، ظلت فكرة كتابة بحث معمق أو كتاب للقارئ العربي عن المهاتما غاندي تراود المؤلف الشعلة، مؤملًا من ذلك العمل إضافة قيمة إلى المكتبة العربية الفقيرة نسبيًّا إلى مثل هذه الأعمال، على الرغم من دور غاندي في إرساء قواعد سياسة الهند الصديقة والمناصرة لقضايا العالم العربي والأمة الإسلامية.

هناك أكثر من واعز دفع المؤلف وشجّعه على الشروع في إنجاز هذه المهمة، فإلى جانب المصادر الكثيرة المتوافرة والمتنوعة، فإن هذا الإنسان كان قد شدّ المؤلف عندما تعرف عليه قبل أكثر من أربعين عامًا، وأصبح منذ ذلك الوقت يتابعه ويبحث ويقرأ عنه ويحرص على مشاهدة الأفلام الوثائقية ويحضر الندوات والمؤتمرات والمحاضرات المتعلقة به.

معالم على الخريطة الإنسانية

بين طيات هذا الكتاب، سنتعرف على الوعي الديني وقرب غاندي من الإسلام والمسلمين، وسنجد القائد غاندي الرافض للنظريات والممارسات الصهيونية، وسنبحر من وإلى الهند.. نحو إفريقيا وأوروبا ومعالم أخرى على الخريطة الإنسانية وقصة التجارب مع الحقيقة، لقد تعمق المؤلف في الدعوة إلى زيارة (المهاتما غاندي) بعد مضي قرابة سبعة عقود على وفاته، والمعنى في ذلك، العودة إلى تراثه الفكري الصامد الذي يقف على نقيض ذلك ويتمسك بالتزام ثابت راسخ فكريًّا وعمليًّا بثقافة التسامح والتعايش والسلم الإنساني.

لماذا؟ وما جدوى الكتابة الآن عن أي إنسان، مهما بلغت أهميته وعظم شأنه وعلا قدره، مثل المهاتما غاندي، وذلك بعد مضي نحو سبعة عقود على وفاته، وبعد أن أُتخِمَتْ المكتبات واكتظت رفوفها بالمئات من الكتب التي دُونت عنه، أثناء حياته وبعد وفاته، إلى جانب ما كتبه وسجله هو عن نفسه وعن أفكاره من مجلدات؟ وما عسانا أن نضيف إلى ذلك الكنز الزاخر بالعطاء الفكري والفني الذي رَسَّخَ مكانة هذا الإنسان في سجل الخلود؟ تلك التساؤلات طرحها المؤلف ليقول: “يمكن للجواب عن هذا السؤال أن يمتد على أكثر من محور، من أهمها، دون شك، حاجتنا اليوم؛ نحن بالذات، كشعوب أو كأمة عربية، أكثر من أي وقت مضى، وحاجة منطقتنا العربية، أكثر من أي منطقة أخرى، إلى إيقاظ واستنهاض قيم ومبادئ المحبة والتسامح والتعايش والسلام التي نادى بها وطبقها المهاتما غاندي، وحاجتنا الملحة أيضًا إلى الخروج من دوامة الفتن والتناحر والاقتتال وذلك باستنفار الصرخات المدوية التي أطلقها غاندي بقوة في وجه التشدد والعنف والإرهاب”.

أشنع صور التطرف

يوجز المؤلف القول بأن عالمنا العربي يشهد، منذ فترة ليست قصيرة، أفظع وأشنع صور التطرف والعنف والإرهاب، تغذيها وتعززها أطروحات وخطابات تحشيد وتسعير، تنطلق باسم الدين، تحرّض على الكراهية والحقد والانشطار المجتمعي، وتدعو إلى الاقتتال وسفك الدماء، وتبرر القتل وتباركه بحماسة وقناعة واعتزاز، وتعد القتلة وتغريهم بالجزاء الأوفى، وهناك أطروحات تمجّد العنف والإرهاب ترتكز على مفاهيم مغلوطة، وثقافة مشوشة، ومنظومة فكرية مختلة، ومنحى أخلاقي وسلوكي شاذ، وإذا لم يتم التصدي لهذه الأطروحات وحصارها، فإنها ستؤدي، لا محال، إلى ترسيخ هذا الانحراف الفكري الخطير، وستدفع الأمة بأسرها إلى هاوية اليأس والإحباط والتأزم، وستجرفها إلى حافة الاضمحلال وتخرجها بدينها ودنياها من مسار التاريخ والحضارة الإنسانية.

في ظل هذه الأوضاع العصيبة المزرية تبرز، بإلحاح شديد، الحاجة إلى استصراخ رسالات السماء واستنهاض حِكَم العقلاء والحكماء وعلى رأسهم المهاتما غاندي وتراثه الفكري الصامد الذي يقف على نقيض ذلك ويتمسك بالتزام ثابت راسخ فكريًّا وعمليًّا بثقافة التسامح والتعايش والسلم الإنساني، وهذا ما يبرر بل يفرض زيارة المهاتما غاندي والكتابة عنه حتى بعد مضي قرابة سبعة عقود على وفاته.

إلى جانب ذلك، يشير المؤلف الشعلة إلى مساحة واسعة من فكر المهاتما غاندي لم تتم تغطيتها وتناولها بالقدر الذي تستحقه، التي انعكست على مواقفه من قضايا الإسلام والأمة العربية، والتي سأحاول استكشافها ورصد منابعها ومتابعة نشأتها وتطورها بشيء قليل من التفصيل، فعلى الرغم من أن غاندي ولد في أسرة وضمن بيئة هندوسية محافظة، وأصبح هندوسيًّا ملتزمًا حتى النخاع، إلا أن توجهاته ومواقفه، اتسمت بقدر بالغ من الاهتمام والتقدير للدين الإسلامي، وانسجامًا تامًّا مع قيمه، وإكبارًا فائضًا لنبي الإسلام ورسالته، وتماهيًا جليًّا مع المسلمين وقضاياهم.

رفض النظريات والممارسات الصهيونية

في فصول متنوعة من هذا الكتاب، نقرأ أن غاندي أكد في مواقع ومناسبات مختلفة أنه مسلم بقدر ما هو هندوسي، وأنه في وعيه الديني لا يبتعد كثيرًا عن الفكر الإسلامي في تحديد الوجود الإلهي أو الذات والصفات الإلهية وطبيعة الخالق. ونقرأ أن الكثير من المتطرفين الهندوس، كانوا ولا يزالون، يعتقدون بل يؤمنون بأن غاندي كان أقرب إلى الإسلام والمسلمين، بل يجزمون أنه ضحى بمصالح ومكتسبات الهندوس لصالح المسلمين.. هذه القناعة جعلت خلية منهم تقوم بتخطيط وتنفيذ عملية اغتياله وتصفيته بعد إعلان استقلال الهند.

في الوقت نفسه، فإننا سنرى غاندي يعلن رفضه وبشدة للنظريات والممارسات الصهيونية، كما سنرى مؤشرات واضحة على تجنبه، منذ البداية، الاقتراب من تخوم الفكر اليهودي، وعدم محاولته الاطلاع على مبادئ وأسس الديانة اليهودية، حتى وهو في زخم مرحلة نهمه وولعه بدراسة مختلف الأديان عندما كان يسعى لتحديد خيارات ومسارات بحثه عن الحقيقة، لذلك، فإن أي باحث لن يجد صعوبة في اكتشاف قدر كبير من نفور غاندي من تأكيد الفكر اليهودي على تميز اليهود وتفوقهم على سائر البشر والأمم، فقد قال: “كان اليهود القدماء يعتبرون أنفسهم، من دون سائر الناس، شعب الله المختار، فكان من نتيجة ذلك أن أُنزِلَت بأحفادهم عقوبة غريبة ظالمة”.

مواقف ومبادئ تتحدى الزمن

عن جدوى الكتابة عن المهاتما غاندي في هذا الوقت بالذات، يضيء المؤلف الشعلة إجابة أخرى، فإن من بين محاور الإجابة أيضًا أن هناك فئة أو نخبة من البشر لا يموتون.. يبقون أحياء.. يظل حضورهم ماثلًا أمامنا دائمًا، يرفضون أن يتواروا أو أن يغيبوا، تبقى مواقفهم ومبادئهم ورؤاهم صامدة تتحدى الزمن، لا تضمر، ولا يخفت بريقها.. أناس يَظَلون مصدر أمل وإلهام، تتجدد الحاجة اليهم، ويشتد العطش إلى مناهلهم، وتصرخ الضمائر لتجديد الوفاء لهم. غاندي في مقدمة ذلك النوع من البشر في عصرنا الحديث، وأصبح بالفعل واحدًا من الخالدين، ومن أبرز القادة والمفكرين، فقد عزَّزَ قيم الحرية والعدالة والتسامح، وحارب فكر العنف والتطرف والإرهاب والاستبداد، ونجح في استخدام أدوات المقاومة السلمية واللاعنف في تحقيق أحلامه وأهداف أمته وتحرير بلاده وانتزاعها من براثن الأمبراطورية البريطانية، التي كانت وقتها من بين أصلب وأعتى القوى في العالم.

كان غاندي أبرز مفكر وأول قائد في التاريخ الحديث قام بفضح وتعرية خطورة الإرهاب والعنف قبل أن تصبح هاتان الكلمتان لقمة سائغة وطبقًا على موائد الوجبات الخطابية لساسة العالم وقادته في أيامنا هذه. غاندي رفض العنف منذ البداية كمبدأ وأسلوب وحتى كأداة لتحقيق أكثر المطالب عدالة وإنصافًا.

ولا يوجد من بين قادة العالم في وقته وحتى اليوم من تعرض شخصيًّا، كما تعرض غاندي، للأذى الجسماني والنفسي والضرب المبرح والإهانة وظل ملتزمًا باللاعنف ولم يحاول أن يرد الأذى أو يدافع عن نفسه باستخدام القوة أو حتى باستخدام يديه العاريتين، وليس هناك قائد مثله رفض بشدة أن ينزع شعبه لاستخدام العنف في أي صورة من صوره وهو يكافح ضد الظلم والاستعباد، ومن أجل الحصول على حقوقه المشروعة.