+A
A-

المخرج الفرنسي فرنسوا تريفو وسحق الثقافة والفن

لا أتصور أن هناك مخرجا سينمائيا تطرق إلى مسألة سحق الثقافة والفن في أفلامه كما فعل المخرج الفرنسي الكبير فرنسوا تريفو 1932 – 1984 في فيلمه الرائع “ فهرنهايت”. ففي العام 1960 قرأ المخرج فرنسوا تريفو قصة قصيرة للكاتب الأميركي “راي براد بري” وقرر بعدها أن يحول القصة إلى فيلم سينمائي. والفقرة التي جعلت تريفو يهتم بالقصة إلى هذا الحد هي.. لا تقرأ.. لا تقرأ.. لا تقرأ باسم القانون، الكتب تجعل الناس أشقياء، تعساء، خائفين، قلقين، لا تقرأ. وقد كان هذا هو الفيلم الأول للمخرج تريفو باللغة الانجليزية، بل هو الفيلم الأول الذي يخرجه خارج فرنسا، وقد عرف عن عالم تريفو تميز أفلامه بعناصر الرومانتيكية والإنسانية والسخرية والحزن، وقصة الكاتب الأميركي براد بيري باختصار، انه بعد الحرب العالمية الثالثة وفي مدينة خيالية في صورتها الكلية والواقعية في أجزائها المتفرقة، ساد قانون يقضي بتحريم ثقافة الكلمة المكتوبة والاكتفاء بالصورة، ولهذا اصبح التلفزيون هو سيد الموقف وهو الوسيلة الوحيدة للثقافة. للتسلية والترفيه وقتل الوقت والهرب من الوحدة والملل، حتى الجرائد أصبحت مجرد صور من دون كلمات، ولهذا حرص المخرج تريفو على عدم كتابة أسماء المشتركين في عمل الفيلم، ولكنه اكتفى بصوت لمذيعة تلفزيونية تذكر أسماء الممثلين والمخرجين وغيرهم، وقانون هذه المدينة كان يقول “إن الكتاب يجعل الإنسان ليس اجتماعيا، بل شقيا، تعسا، ولهذا فهو يحارب الفكر ويحارب العقل ويحارب كل الآراء وكل الأفكار أيا كان لونها”.

وإذا كانت المسيحية تقول في البدء كانت الكلمة، فإن قانون هذه المدينة يقول في البدء كانت الصورة، واذا كان الأديب “جوته” هتف قبل موته: مزيدا من النور.. فإن هذا القانون يهتف بمن يقومون بتنفيذه.. مزيدا من الجهل!

ولهذا استحال رجال المطافئ في فيلم تريفو الى رجال يحرقون الكتب ويطفئون النور والعلم والثقافة والفكر.

عموما، ان قصة براد بري وفيلم تريفو يعبران عن صرخة احتجاج ضد هذا النشاط الهدام الذي يهدف الى ان تقوم الصورة بدور الكلمة المكتوبة وهو نشاط يشبه الى حد كبير إحراق الكتب، وبراد بري يريد بهذه القصة ان ينذرنا أن الإنسانية لا بد وان تنتهي إلى ان تصبح هذه المدينة التي تكره الثقافة والفكر والمعرفة، اذا لم نبادر بإنقاذ الثقافة التي تسير في طريق الانحطاط والتفاهة السطحية بفضل هذه البرامج التلفزيونية الفارغة وبفضل الكتب الرديئة، وما اكثرها في هذا الزمن الأعرج.