+A
A-

مشكلتنا مع الجرأة... من دونها لا تكون مبدعا

يقال إن أهم صفة للمبدع هي أن يكون متمردا، فمن دون التمرد ستكون مبدعا “عاديا”، ينحصر تأثيرك في إثارة الشعور بـ “الجمال” الذي يولده الإبداع. أما إن توافق لك أن تكون متمردا أيضا، فعندها يكون لك تأثير “أخطر” تأثير “فكري”.

ويترادف التمرد في أذهاننا غالبا، مع الجرأة، وقد ترادفت الجرأة، لوقت طويل في الماضي، مع إساءة الأدب! لكنها، وفي عالم تمت إعادة تعريف كثير من الأخلاقيات فيه، كعالم اليوم، باتت صفة مطلوب بشدة توافرها لدى كل من يطلب النجاح.

بالطبع، فإن من واجب المبدع أن يمحص متغيرات الحياة. ويجوز له أن يطرح الأسئلة، على وعي المجتمع، من الطبيعي أن “يتمرد”، وبالتالي يستفز الناس لسماعه، ويحرضهم على مساءلة ضمائرهم، لعل تغييرا ما للأفضل يكون.

ولكن القول بأن ذلك “جرأة “ هو أيضا، برأيي، غير ملائم ليس لما للجرأة من “سمعة سيئة”، (فهي اليوم، في الواقع، تكسب الرهان!)، بل لأنها، بالذات بدأت تتحول إلى مجرد فعل تمرد لا هدف منه غير لفت الأنظار!

أفضّل أن يقال عن مثل ذلك أنها “شجاعة”، فالشجاعة هي الجرأة حين تكون مطلوبة وفي محلها حين يكون لها دواعيها، وتقال معززة بالمنطق والحجج القوية، حينها يكون مثل ذلك “الاستفزاز” مقبولا، بل ومطلوبا ليكون له فينا مفعول “الصحوة”! نعم، نحتاج استفزاز المجتمع أحيانا؛ من أجل تحقيق العدالة، أو لطلب الحرية أو للحصول على الانصاف. وهذا استفزاز محمود لأن من شأنه تحريك الضمائر والسعي لتغيير الواقع.

مشكلتنا مع الجرأة أنها أصبحت الكلمة “المفضلة”، والأكثر ضمانا لتحقيق الرواج المطلوب، إنها، ككلمة، محرضة، ومثيرة للفضول أكثر من كلمة “شجاعة”، خصوصا من بعد ما ترجمها بعض الكتاب إلى المفهوم الغرائزي، ما عزز ارتباطها به في أذهان المتلقين، فأصبح كل كتاب يقال عنه “جريء” يفهم عنه، مباشرة، أنه يخاطب الغريزة! لقد كانت “الجرأة - الشجاعة” وسيلة تستخدم باقناع لإدراك غاية، وتحولت إلى غاية بحد ذاتها، وهكذا أصبحت، كأنما، فعلا مبتذلا، يقام به بلا هدف غير جذب “الزبائن”!

إن السياق الذي تقال فيه الأشياء مهم. وهو الذي يحدد إن كنا سنعتبرها جرأة، أم شجاعة، أم “وقاحة”! وإن كنا نصر على اعتبار الشجاعة التي يمارسها مبدع لإدراك غاية مهمة فكريا واجتماعيا، إن كنا نصر على تسميتها بالجرأة، فلتكن إذن جرأة “حميدة”، هذا، وإن كان التمرد هو ما يجعلك مبدعا فريدا، واسستثنائيا، فإن اختيارك لطريقة تعبيرك عن هذا “التمرد” لا تقل أهمية.

أظن أن علينا التأسيس، اليوم، لهذه الفكرة، قبل أن تتأصل فينا فكرة قبول الجرأة كعنصر تسويق ليس لاستخدامه أي ضرورة فكرية!