عن كتاب "جرداب.. فيها عين جارية" للكاتب حسين مدن

| عبد النبي حسن سلمان

أنها ليست اطلالة بل إبحار ممتد لعمق التاريخ مروراً بالحقبة الزمنية المعاصرة للإنسان والطبيعة والقيم الدينية والنسيج الاجتماعي في جرداب، القرية الصغيرة في جغرافيتها الواقعة على ضفاف خليج توبلي والمقابلة للنبيه صالح.

إبحار مميز تخلله ممرات صعبة كحال أي مجتمع صغير في جزيرة أوال المتكونة من 360 قرية متناثرة على ربوع أوال التاريخية، تشترك بسمات وأصول مشتركة وتختلف في الهامش وليس في الأصل.     

الكتاب إضافة نوعية ومنتج بالكلمة والصورة بشكل متداخل ومعبر.    إنه إضافة قيمة لإصدارات أنجزت في العقد الأخير، وهي جهود فردية تمت بدافع وشغف ذاتي بل وبتمويل من جيبهم الخاص في حين ترصد الدول الميزانيات والكفاءات العلمية والمعاهد المتخصصة لتوثيق الارث الانساني كشاهد على حضارة البلد والانسان.

أضاف الكتاب لمسات مميزة في العرض والمحتوى حيث أن الاصدارات التي تمت والتي تصب في نفس المجرى تفاوتت في المستوى في العرض والمضمون لكنها تقدر في زمن التغييب واللهث وراء المادة.    لقد كانت هناك اضاءات على الطريق الصحيح من أمثال "ذكريات الزمن المنسي - الديه نموذجا" للأديب يوسف حسن، حيث صيغ بأسلوب أدبى متمكن من أدوات اللغة وكذلك "السيرة الذاتية لقمر السنابس أحمد بن خميس مجتمع السنابس" للأكاديمي د. حميد السلمان و"البحث عن مجتمع حي النعيم من المنامة" لسعيد القلاف، وكذلك توثيق عن الأساتذة والمعلمين للعاصمة المنامة بالكلمة والصورة في اصدار مميز، وهناك محاولات فردية هنا وهناك كإصدارات عبدالله مدن عن الديه و جمال السيد عن أحياء مدينة المنامة بالفيديو متلازمة مع مدخلات موسيقية راقية.

الكتاب دين مستحق لجيل الأجداد والآباء، مستحق لهم لسيرتهم وبصماتهم في سبيل الرزق والتربية والمجتمع جزءا أو كلاً يتوارث فينا.

ماذا أضاف الكتاب وبماذا تميز:

اسلوب ورض المادة حيث وظف الكاتب خبرته المتراكمة وأكاديميته في عرض مادته تراوح ذلك من توظيف الأسلوب العلمي من إحصاءات ونسب والاستناد الى بعض المراجع واسلوب الحكاية والقصصي في كثير من صفحات الكتاب وفصوله المزج بين الخاص والعام والخصوصية والمشترك مع الآخر حيث ربط تأثيرات الحراك الاجتماعي والسياسي الحاصل في الوطن والخليج والأحداث القومية العاصفة في الخمسينات حتى الثمانينات ومنطقته ومجتمعه الصغير. وظف كلمته بصور فوتوغرافية مترابطة مع سرده القصصي وهي بالطبع تثير الشجون.

جولة بين رحاب الكتاب: جال الكاتب في 400 صفحة مصقولة، جولات شيقة بها عبق الماضي لكن جل انطلاقته في الستينات والسبعينات وارتد للوراء ليسطر تاريخ أجداده، لكن استهل الكتاب بعد الشكر عرفاناً  لجهد جماعي (أغلبه إسهام الكاتب ذاته كونه من عائلة مدن المحور والركيزة الأساسية لمجتمع جرداب ونسيجه الاجتماعي وحيث الكاتب يتصف بالنبوغ والحركة كناشط اجتماعي جعل ولوجه ومدخله لمادته (جرداب) بمدخل ادبى لشاعر مشهود له وهو الأديب الوجيه تقي البحارنة الذي تغنى بجمال وطبيعة جرداب الريفي الوادع ونسمات بحرها العليلة بعد انتقالهما هو والأستاذ رسول الجشي للسكن إلى جرداب ويختمها بقصيدة لشاعر القرية عاشور عيسى حيث أثارت شجونه القرية بعد انتقاله لجدعلي القرية المجاورة رغم بساطتها لغوياً وموضوعاً.

في الفصل الأول (الطبيعة الجغرافية والتاريخ) وهي الواقعة والمطلة على خليج توبلي ومطلة على جزيرة النبيه صالح من جهة الشرق ضمن سلسلة قرى -توبلي-الهجير-الجبيلات-الكورة -جدعلي- سند-النويدرات-المعامير وشدني بحث الكاتب المعزز بالإحصائيات وهي ما أشرنا له بتميز العرض العلمي الثابت للحقائق، (ص 16 إلى 18)، بلغ عدد نسمات جرداب بموجب أحصاء 1955، 164 نسمة ليدلل على صغر المجتمع سكانياً و166 بيتاً (يعنى ما اضيع) لكن كيف تحدت هذه القلة ظروف الزمن ووجدت لها مكاناً تحت الشمس؟

ذلك ما يوضحه الكاتب في طيات كتابه بالطبع زاد عدد السكان إلى 450 ثم إلى 2750 في سنة 2008م بالمقارنة والنسبية للقرى المتاخمة مثل النويدرات، الشكل الذي يدلل على صغر المجتمع، وطال المجتمع تغيرات كحال غيره وذلك لتغير الاقتصاد والدخل وعوامل أخرى حيث تفتت الأسرة الممتدة والمركبة إلى نووية وتقسم البيت العود إلى بيوت كحال أهل البحرين ومناطقهم وما حل بها من تغير ديمغرافي.   التغير الديمغرافي سار بوتيرة بطيئة في نسيج المجتمع الجردابي وطرأ ايضاً تحول لمناشط الأهالي من الفلاحة والصيد إلى العمل في النفط (بابكو)؛ حيث عمل كثير من رجال القرية بمختلف الوظائف المتاحة بشركة النفط بابكو واثبتوا جدارتهم.

يوثق الكاتب أن جرداب بها 19 عين عذبة بعضها غار وبعضها تحول لبئر ارتوازي ثم نضبت مع الزمن واستخراج البترول منذ الثلاثينات وأشهرها عين الحكيم شمال جرداب وتنبع من الجنوب ونسبت إلى الحكيم العبدي واشتق الكاتب عنوان الكتاب بالتناغم مع هذه العين العذبة. 

يطوف بنا الكاتب بعادات وطقوس وتقاليد الزواج والحياة الاجتماعية والتي هي تتشابه او تتطابق مع طقوس أهل البحرين الجميلة عموماً ولعل هذه الطقوس والعادات وما يلازم ذلك من أناشيد وأغاني وأهازيج تعتبر كنزاً تراثياً فنيا.

دون الباحث مؤسسات القرية في فصل خاص، المساجد، المآتم، الصندوق الخيري، وللكاتب جهد مشهود في العطاء حيث كان رئيساً لسنوات امتدت إلى 12 سنة لصندوق جرداب الخيري، الذي تحول إلى جمعية خيرية كحال القرى الأخرى بموجب إجراءات رسمية، ومركز الشباب، ويذكر الكاتب بان المسجد الرئيسي هو مسجد الشيخ خميس أما المأتم الرئيسي مأتم جرداب فكان في السابق في البيت العود حيث تقام فيه إحياء الشعائر الحسينية والمواليد حيث جبل أهل جرداب على عشق الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام ولا تختلف عما جبل وتعود أهل البحرين بالقيام به في مناسبات عاشوراء ومواليد الأئمة (ع). 

جرداب وافرة البساتين والمزارع تحاط بها، وساحل جرداب يثير الخواطر لكن لم يسلم من الدفن كحال القرى الساحلية وحاول الأهالي الحفاظ عليه دون جدوى ومع التحول للاقتصاد المعتمد على النفط (الفصل الثاني) والتوسع العمراني وعدم التوثيق الرسمي لبعض ملاك الأراضي الزراعية تقلصت ثم اختفت، وذلك التحول والنموذج لا يختلف عما أصاب القرى اقتصادياً ثم ديمغرافياً بل حتى المدن كونها تداخلت مع القرى.

يلحظ المؤلف كيف داهم التطور العمراني بعد انشاء مدينة عيسى عام 1968 مما اضطر بعض أهالي جرداب بالتنقل للسكن بعد تردد من المركز (جرداب القرية) إلى المدينة أو المناطق القريبة بعد توفر الخدمات المختلفة.  

 في فصل آخر يسرد حكايات طريفة واقعية، حصلت لشخصيات الديرة في شكل أقرب الى الحكايات الشعبية، وفى فصل آخر يدون السيرة الذاتية لشخصيات القرية وسر نجاحهم الذي أتى بشق الأنفس فعلى سبيل المثال تاجر القرية وبعد انتشار التعليم النظامي زاد عدد المتعلمين ومنهم الكاتب الذي شق طريقه منذ الستينات ليكمل مشواره التعليمي.  لكنه يشير إلى أن تعليم المرأة جاء متأخرا بالمقارنة مع المناطق الأخرى في البحرين، ويختم المؤلف كتابه بشي من سيرته الذاتية ومشواره الأكاديمي والمهني وتطلعه وبحثه عن الجديد في حقل الاتصالات والادارة والعلاقات العامة والإعلام ليعطي درساً على جدية الإنسان البحريني وجدارته.    لا نلوم الكاتب في هذا التداخل فالتأثير الفردي واضح، في علاقة جدلية واضحة بين الفرد والمجتمع.   لا أريد الإسهاب فيما حواه الكتاب لكنها دعوة للكل للقراءة وحتى لا أفوت الفرصة للأخرين للاستمتاع.

وقفات:

باعتقادي المتواضع كان من المفضل بعد المقدمة أن يقدم الكاتب مادته (جرداب) وأن يكون المدخل الأدبي فصلاً او ملحقاً. في عرضه لطقوس وعادات الزواج أورد الكاتب جملة من الأهازيج والأناشيد والأغاني التي أمتاز بها المجتمع الريفي ومنها جرداب ومثل ما أشرنا أعلاه بمجمله يعتبر كنزاً تراثيا فنياً (ص 152) وثق بعضه وطور بجهود فردية لكنه يحتاج إلى تجميع وتصنيف وتطوير لا يمس جوهره ويبعده عن التهميش وافراغه من مضمونه الغني أوالسرقة، جميل ما يعرضه الكاتب في الجلوة: 

أمينة في أمانيها           مليحة في معانيها              وفى أخرى            

يا حبذا دوحة في الخلد نابتة         ما قبلها نبتت في الخلد من شجر             المصطفى أصلها والفرع فاطمة    ثم اللقاح على سيد البشر             وغالبا ما تؤدى بصوت جميل وبإيقاع منتظم ويرد على المؤدية من قبل المجموعة، لكن الكاتب تناسى بان الصبح بانيه وهي مجموعة أبيات جميلة بها معاني اجتماعية ورومانسية في إيقاع منتظم تظل خالدة في ذاكرة المعرس لسنوات طوال، ومن ضمنها:

    مريت على بابكم                ودويجكم ما صاح     حطيت في جفي قفل             وصويبعي مفتاح     لو طاح مفتاح الهوى         لو الراس مني طاح     

الكتاب أقرب إلى التوثيق والواقعية بل يلج في التفاصيل التي خدمت الموضوع والمادة في الأغلب، لكنه أخفق في بعضها مثل التلهف لأكل فضيل عشاء الشيخ رجل الدين من الدجاج المقدم له، فضلاً عن أن الكتاب يؤرخ عن الكاتب ذاته في كثير من الفصول التي هي أقرب الى السيرة الذاتية والمذكرات الشخصية، وله ما يبرره في كثير من الجزئيات.

الكتاب مرآة لكل بحريني في الريف أو في المدينة في مجتمعنا المترابط ونسيجه الاجتماعي، يرى فيه طفولته وألعابه وصباه ونفسه وأباه وجده في مشهد درامي وأنيس، كما كان جميلاً توثيق أول تاجر وتجار الديرة وأول ميكانيكي وسائق أجرة وأول طبيب ومعرض السيارات والبيوت وطريقة تشييدها والتطور العمراني في التصميم ومواد البناء والامثال الشعبية التي قاربت مئتين وسبعة وعشرين مثلا عاكسة للقيم الاجتماعية والثقافية ونمط الحياة وووو.

شكرا للكاتب على جوده وكرمه وجودة الكتاب وإبحاره في جولة شاقة لكنها شيقة.